أن يتلقى البطريرك الراعي، أحد كبار أحبار الكنيسة الكاثوليكية، دعوة رسمية لزيارة السعودية: حدث لافت جداً بكل المقاييس. الداعي غير عادي إنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وكذلك مُتلقي الدعوة، الذي ربما كان أول حَبرٍ كاثوليكي يزور المملكة، حيث سيلتقيه الملك، وسيلتقيه كذلك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يقود «السعودية الجديدة». هذه الزيارة تتجاوز في الأهمية والتوقيت والدلالات، أكثر زيارات أهل السياسة اللبنانيين وترسيماتهم، لأنه في التوقيت اللبناني، ومع الأزمة السياسية الراهنة على خلفية استقالة الرئيس سعد الحريري، سيبقى لبكركي ولسيدها الأثر العميق على البوصلة اللبنانية في المنعطفات الكبيرة حفاظاً على الكيان اللبناني، وحفاظاً على موقع لبنان ودوره.
الوزير ثامر السبهان، رأى أن الزيارة «تؤكد نهج المملكة للتقارب والتعايش السلمي والانفتاح على جميع مكونات الشعوب العربية». بمعنى آخر، تُعدُّ هذه الزيارة التعبير عن منحى جديد في التعاطي السعودي عموماً وحيال لبنان، ما أدى إلى مزيد من الانخراط السياسي والتواصل مع مروحة واسعة جداً من الأطراف اللبنانيين، وهذا المنحى جزءٌ لا يتجزأ من معالم مرحلة نوعية في سياسة ماضية في نبذِ التطرف ورفضه، دشنتها عملية «عاصفة الحزم» يوم أطلقت الرياض أوضح مواجهة مع الصلف الإيراني، الذي زعزع الاستقرار في كل المشرق العربي وحمَل لبلداننا الويلات والخراب، وكان واضحاً أن هذه المواجهة ستشمل كل الساحات العربية، التي تحولت مسرحاً للعربدة الإيرانية، ولن تقتصر على الوقوف بحزم مع الشرعية اليمنية.
صحيح أن الدعوة والموافقة عليها، سبقت استقالة الحكومة، التي جاءت على قاعدة انهيار «التسوية» بعدما هددت بنقل لبنان من موقعه الطبيعي إلى موقعٍ آخر. لكن حدوث الزيارة رغم الغبار الذي يُثار في بيروت عن مكان الحريري، وحقيقة وضعه وقراره الحر، والإصرار على تجاهل اللقاءات الكثيفة التي يعقدها مع كل الجهات الدبلوماسية، فإن الزيارة ترتدي أهمية استثنائية لأن صاحب الزيارة، وهو البطريرك الإنطاكي، لم يأخذ بكل ما يشاع، وهو رفض بشكلٍ قاطع كل «التمنيات» بتأجيل الزيارة. 
هناك من يريد وضع لبنان، رغم أنف أكثرية أهله، في موقع المواجهة مع السعودية ودول الخليج، التي في كل المنعطفات الصعبة مدّت يدها للبنان، وحضنت مئات الألوف من أبنائه. بهذا السياق، إن إصرار البطريرك على إتمام الزيارة في موعدها، رسالة بأن ليس كل اللبنانيين في سلة واحدة، لا بل أكثريتهم تنظر لمصالحها ومصالح لبنان، من منظور مغاير لما أرادته الحملة التي يصرُّ أصحابها على تجاهل المضمون الحقيقي للاستقالة.
في لبنان يمسك «حزب الله» بقرار الحكم، مستفيداً من فائض قوة لافتة وانكفاء سياسي أمامه، ما مكّنه من فرض إملاءاته على كل المستويات، مستنداً لترسانة صاروخية تُعدُّ أبرز أدوات مدِّ السيطرة الإيرانية، ومستنداً إلى «تسوية»، أفضت لإمساكه وحيداً بقرار البلد، «كاف أن نتذكر كيف فرض (حزب الله) إنهاء حرب الجرود، وكيف أنجز اتفاقات مهينة مع الإرهابيين»، مقابل فوز بعض شركاء «التسوية» ببعض كراسي الحكم غير المؤثرة وحصص من المغانم... ولافت أن هذا البعض، تجاوز في حينه الغليان الشعبي الواسع في لبنان رفضاً لمنحى خطف البلد وإلحاقه بمحور «الممانعة»، والذريعة الحفاظ على الاستقرار، فيما عملياً بات الاستقرار على كفّ الحرس الثوري، وفاته أن الطرف الآخر طوى «التسوية» وأسقط كل ما تردد يوماً من أن هذه حكومة «ربط نزاع» ستحافظ على «الستاتيكو»، وتبعد لبنان عن نار المنطقة. لا بل إن القول إن سلاح «حزب الله» بات «مكوناً من مكونات قضية الشرق الأوسط وبات حلّه مرتبطاً بحلِّ هذه القضية»، شكّل رسالة سلبية وربما دعوة لإقفال النقاش حول مسألة السلاح، وهذا متعذر، لأن التجربة وهي خير برهان، أكدت أن لا استقرار داخلياً مقروناً بالتسليم بسيطرة «حزب الله» وسطوته، وكشفت أيضاً الأثر السلبي على البلد وعلى مصالح أبنائه، مع مواصلة «حزب الله» استباحته للحدود والسيادة، والتدخل في الحرب السورية وضد بلدانٍ شقيقة، مع تجاهل كبير لما يدور حولنا وفي العالم، من أن فترة السماح التي ميّزت عهد الإدارة الأميركية السابقة، انتهت إلى غير رجعة والحسابات العالمية والإقليمية تتغير بسرعة.
مسألة أُخرى وراء حملة «الحب» التي تتجاهل الدستور، ويرفض صاحب المسؤولية بدء استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة، إنها الزعم بأن الحكومة ما زالت قائمة، وعلى الوزراء القيام بمهامهم من دون أن تجتمع الحكومة، لأن الدستور أناط برئيسها حصراً حق الدعوة، والهدف معروف وهو المُضي بعقد الصفقات في تلزيم النفط والغاز والكهرباء والهاتف الخليوي، دون العودة إلى مجلس الوزراء مع إمعانٍ في انتهاك الدستور وتعطيل كل آليات المساءلة، ووضع البلد في وضعٍ لا يحسد عليه. وهنا أهمية زيارة البطريرك للرياض فهي ستعجل حتماً في تصحيح الصورة.

 

حنا صالح