لا غموضَ حول هوية الصاروخ الذي استهدف الرياض. السعودية أعلنتها. والجيش الأميركي أكدها. وحطامه يقدم الدليل. لا مجال لتأويلات أو التباسات. إنه صاروخ حوثي - إيراني. الحوثيون فيه مجرد فرصة لإطلاقه. ولعل الحادث نفسه يكشف لماذا اضطرت السعودية إلى خوض الحرب في اليمن. شعرت أن المقصود من انقلاب الحوثيين هو تنصيب ممثل إيراني للجلوس على ترسانة صواريخ هدفها الأول والأخير تهديد أمن المملكة.

رسالة الصاروخ صارخة. مكتوبة بحبر فارسي. وهي تؤكد الانتقال من استراتيجية التطويق والضربات الملتبسة إلى الاعتداء الواضح والصريح. إنها عملية انتهاك علنية لما يمكن تسميته الخط الأحمر. ولا تستطيع السعودية التهاون حيال اعتداء يمسّ أمنها الوطني واستقرارها وصورتها.

لا غرابة في أن يلجأ النظام الإيراني إلى عبور خط أحمر. فهو بطبيعته لا يتقيد بقوانين السير الدولية. أيْ القوانين التي تنص على دخول الدول من بواباتها الشرعية. واحترام سيادتها. وحدودها الدولية. والتعامل معها وفق المواثيق والأعراف الدولية. وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. سياسة زعزعة الاستقرار تقوم على إسقاط هيبة الخطوط الحمر والقوانين الدولية.

أيّ مراجعة سريعة للسياسات الإيرانية في العقود الأربعة الماضية تُظهر بجلاء أن النظام الإيراني مصاب بحالة من إدمان انتهاك الخطوط الحمر. لقد انتزع لنفسه حق التدخل داخل هذه الخريطة أو تلك وبغضّ النظر عن رأي السلطة الشرعية فيها. وأباح لنفسه فرض وقائع على الأرض تُرغم تلك السلطة على قبول التدخل الإيراني أو الاضطرار إلى التعايش معه. والذرائع كثيرة تمتدّ من تزعم تيار الممانعة إلى الدفاع عن أقلية تشبهه هنا أو هناك.

لم يسبق أن نفذت دولة في الإقليم هذا العدد الاستثنائي من التسربات إلى داخل خرائط الآخرين. وقلب المعادلات فيها. وتغيير وجهتها وهويتها. ولم يسبق أيضاً أن تدخلت دولة إقليمية لتخرج أقليات تشبهها في الانتماء المذهبي من النسيج الوطني الذي تنتمي إليه وتلحقها بالقرار الإيراني في الإقليم تحت مسميات مختلفة. لقد تعدى الأمر الاختراق العارض إلى محاولة فرض قاموس جديد تماماً. إسقاط القداسة التي كانت معطاة للحدود الدولية. إسقاط حق الجيش الوطني في أن يكون القوة المسلحة الوحيدة على أراضي بلاده. إعطاء حليفها داخل خريطةٍ ما حقّ النقض على قرارات حكومة بلاده، ما يسمح له لاحقاً بأن يملي عليها خياراته في السياستين الداخلية والخارجية.

ومشكلة أهل الإقليم مع إيران أنها ثورة ترفض التحول إلى دولة طبيعية أو تخاف مثل هذا التحول. الدولة الطبيعية تقيم داخل حدودها وترابط قواتها المسلحة على أراضيها. دولة تحترم القرارات الدولية والمواثيق والأعراف وتخاطب الدول القريبة والبعيدة باللغة المتعارف عليها. الدولة الطبيعية تعني أن يسأل المواطن حكومات بلاده عما فعلته في التنمية، وتوفير فرص العمل وتحسين ظروف حياة المواطن. وهي أسئلة يستطيع الرئيس الصيني مثلاً أن يرد عليها بوضوح، وهو ما لا يستطيعه الرئيس الإيراني.

ومشكلة أهل الإقليم مع إيران هي أنهم يريدونها دولة طبيعية، وهي لا تريد أن تكون كذلك. سياسة «تصدير الثورة» هي العنوان الوحيد الدائم، رغم ما تقتضيه أحياناً من استراحات ومفاوضات فوق الطاولة أو تحتها. سياسة ثابتة لا تتغير سواء نُفذت تحت ابتسامات محمد خاتمي أو حسن روحاني أو تحت الملامح المتجهمة لأحمدي نجاد. الرئيس الإيراني، وبغض النظر عن نتائجه في الانتخابات التي تعد بعناية في مطبخ النظام وفقاً لحاجات البرنامج الثابت، هو في النهاية موظف رفيع المستوى في مكتب المرشد، وليس الصانع الأخير للسياسة، ولا يملك حق الاعتراض الفعلي على القرارات المفصلية.

ومشكلة أهل الإقليم مع إيران هي أنها لا تملك نموذجاً جاذباً يقتدي الآخرون بنجاحاته الاقتصادية ويحاولون استلهام وصفاته. وقد أظهرت التجارب أن النموذج القائم لا يمكن زرعه في تربة أخرى، خصوصاً في دول متعددة التركيبة. وخير دليل أن تصاعد النفوذ الإيراني في هذه الدولة أو تلك أدى إلى تصديع الخرائط، وتفكيك الوحدة الوطنية، وخلق الظروف لنزاعات طويلة تمزق الدول وتنذر بتفتيتها. هل يمكن مثلاً ضمان وحدة العراق إذا كانت طهران صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في بغداد؟ يمكن طرح السؤال نفسه عن سوريا وكذلك عن لبنان واليمن.

واضح أن إيران تواصل سياسة «الانقلاب الكبير»، واغتنام أي فرصة للتقدم والمرابطة والهضم ومعاودة الانطلاق. وواضح أن الهجوم الإيراني الشامل في المنطقة تصاعد وتسارع بعد سقوط الجدار الذي كان يمثله نظام صدام حسين، وإنْ مثخناً. كانت في مشروع «الانقلاب الكبير» محطات ومحطات. عشية الغزو الأميركي للعراق اتُّفق في لقاء سوري - إيراني رفيع المستوى في طهران على منع قيام حكومة مستقرة في بغداد في ظل الوجود الأميركي. وهذا لم يمنع أحمدي نجاد من أن يكون أول رئيس من المنطقة يزور بغداد و«المنطقة الخضراء» ويمر عبر الحواجز الأميركية. وغداة اغتيال رفيق الحريري اتخذ الطرفان أيضاً قراراً بمنع قيام حكومة مستقرة في لبنان بعد اضطرار القوات السورية إلى الانسحاب منه، وهذا ما حصل. ثمة نقطة ينساها كثيرون. إيران كانت صاحبة الدور الرئيسي في استنزاف «اتفاق أوسلو» وانطلاق العمليات الانتحارية وعسكرة الانتفاضة الثانية. والنتائج معروفة على الاتفاق وياسر عرفات.

أمام مشروع «الانقلاب الكبير»، بدت السعودية في صورة عقبة كبرى بسبب ثقلها العربي والإسلامي والدولي. لهذا كانت السعودية هدفاً دائماً لهذا البرنامج. وحين تعذر التطويق عبر البحرين وُلدت فكرة استكمال التطويق عبر اليمن، ووظيفة ترسانة الصواريخ الموضوعة في عهدة الحوثيين.

أغلب الظن أن إيران تشعر بالقلق من المشهد السعودي الجديد. مشهد الدولة المصممة المتحركة في الخارج والداخل. مشهد العلاقات الوثيقة مع أميركا والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية مع الدول الكبرى. ومشهد السعودية التي أطلقت في الداخل برنامجاً واسعاً للتحولات الاقتصادية والاجتماعية بدأ بتحقيق «خطوات عملاقة»، كما وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي. ضاعف هذا الواقع من الرغبة في استهداف السعودية.

فتح الصاروخ فصلاً جديداً في العلاقات السعودية - الإيرانية وفي العلاقات الخليجية - الإيرانية. تتمسك إيران بسياسة إعادة تشكيل الإقليم لانتزاع الموقع الأول فيه، وربما لتكون الشريك الأكبر لـ«الشيطان الأكبر». والواضح هو أن السعودية الجديدة اختارت نهجاً جديداً في احتواء «الانقلاب الكبير» وردعه. لم يترك الصاروخ الحوثي - الإيراني للسعودية إلا خيار توظيف كل قدراتها وعلاقاتها للجم «الانقلاب الكبير». إنها معركة مستقبل الإقليم وتوازناته.