مضى أسبوع حتى الآن منذ إستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، ولا يزال معظم قادة البلد وزعمائه، من رسميين وسياسيين، منخرطين في لعبة كسب الوقت، من دون أن يتخذوا إجراء جدي لتدارك المخاطر التي حملتها الإستقالة في مضامينها، ومعنى إعلانها من السعودية.
بدلا من ذلك، يجري التوقف عند الشكل الذي أُعلنت به الاستقالة، فتعتبر "لاغية"، ويعمل كثيرون على إشعال البلد بحمية الكرامة الوطنية المهدورة باحتجاز رئيس حكومته رهينة لدى السعودية. وبهذا الأسلوب من الإنكار المُغلَّف بالاستهانة، يجري التعاطي مع الاستقالة بالشكل دون المضمون، وتبذل "الجهود" وتعقد الاجتماعات والمشاورات، وجميعها تدور في حلقة هدر وقت ثمين، وتصبح تسويفًا مقصودا لمهمة التصدي للقضايا التي حملها خطاب الاستقالة، وأولها الحفاظ على توازن تموضع لبنان وسط العاصفة التي تمر بها المنطقة.
لبنان في قلب العاصفة، القاصي قبل الداني يعرف أن خطرا داهما يهدد استقراره ومعيشة أبنائه، ومع كل يوم يمضي في تواصل الإنكار والإستهانة وتقديم الشكل على المضمون، يبدو واضحا ابتعاد الجميع عن التصدي للمهمة المطلوبة وهي العمل لوقف مسار تغيير هوية البلد وموقعه وتجنيبه مغبة التحول ساحة صراع وتصفية حسابات إقليمية.
إقرا أيضا: محنة الحريري أم محنة وطن ؟
المواجهة السعودية –الإيرانية تتصاعد من ذروة إلى أخرى وكل المؤشرات تدل على أنها نحو مزيد من التصاعد. ثمة معطيات تفيد بوجود قرار دولي بحصار جدي على إيران وأذرعها العسكرية، في ظل معطى جديد نشأ بعد القضاء على داعش ودخول المنطقة مرحلة البحث الجدي في مصير دولها وشعوبها.
لا "مزاح" في الكلام السعودي العالي النبرة تجاه إيران ودور حزب الله في لبنان وخارجه، الذي يطلقه باستمرار الوزير ثامر السبهان، والذي انضم في إطلاقه وزير الخارجية عادل الجبير، كما أنه "لا مزاح" في الكلام الذي يردده المسؤولون الإيرانيون، بدءً بالرئيس حسن روحاني، والتباهي بمد نفوذ الجمهورية الإسلامية من اليمن إلى شمال إفريقيا.
لا مزاح بل عمل جدي متواصل يقوم به الطرفان استعدادا لحضور فاعل في المرحلة المقبلة. وغني عن القول إن أيَّا منهما لن يبالي بمصالح الآخرين على حساب مصلحته.
هذا الكلام يبدو بديهيا في توصيف طبيعة الوضع الإقليمي، ومع ذلك يصر أولو الأمر في لبنان، على مواصلة التسلي بتقطيع الوقت، اجتماعات ومشاورات وتصريحات لا تقول شيئا مما تحتاجه مصلحة البلد وأهله. وإذ تبرز "نخوة" كرامة وطنية مستحدثة تجمع هؤلاء في التفجع على "مصير رئيس الحكومة المخطوف"، يصبح تقطيع الوقت هكذا نوعا من التسلي بمستقبل البلد، الذي لا يمكن ضمانه بمجرد الرهان على أن المظلة الدولية التي حمته حتى الآن ستبقى إلى ما لا نهاية.
إقرا أيضا: بعد زيارة الحريري للسعودية ... لبنان في مهبّ رياح السموم الإقليمية
زمن التسلي بالخلافات وتقطيع الوقت بالشروط والشروط المضادة وتصعيد المواقف لتعظيم المكاسب، لم ينتج عنه إلا التلهي بقشور التسوية التي جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية، وجمعته بسعد الحريري. ففي ظل هذه التسوية، التي كلفت لبنان الكثير ارتكبت السلطتان التنفيذية والتشريعية شتى أنواع الموبقات بحيث جرى إنتهاك الدستور جهارا وبلغت المحاصصة مداها. وفي ظل هذه التسوية التي جعلت السياسة في المحل الثاني بعد المصالح المباشرة، فتحولت الحكومة المنتخبة إلى مجرد سلطة شكلية لا تبحث في القضايا الخلافية والجوهرية، ما أفسح الفرصة لحزب الله كي يكون هو حكومة الظل، التي تلزم قراراتها السلطة السياسية والبلد (ألم تشكل خطابات السيد حسن نصر الله العديدة في توجيه الأمور دليلا على ذلك؟)
هكذا وجد حزب الله فرصته لقضم مواقع جد كبيرة في الداخل والخارج، آمنًا من المساءلة والحساب، بل أن رئيس الجمهورية المؤتمن على السيادة لم يجد حرجا، وعشية كل سفرة يقوم بها للخارج، في المبادرة إلى تجديد الاعتراف بحتمية بقاء سلاح الحزب إلى ما شاء الله.
وفي ظل هذه التسوية ارتكبت أمور كثيرة تطال السيادة والكرامة الوطنية، من "المَوْنة" الإيرانية باعتبار لبنان ساحة من ساحاتها، إلى سرقة انتصار الجيش اللبناني على داعش في الجرود، وإهدائه إلى حزب الله الذي أبرم التسوية المعروفة مع المنظمة الإرهابية، وهو ما شكل ضربة قاتلة للفرصة التي واتت لبنان بأن يكون جيشه الشرعي، الذي نحسن مستوى تسليحه وتدريبه ويتلقى هبات من الأسلحة الحديثة والذخائر الذكية من الغرب، قادرا على بسط السيادة. وقتها لم ينبرِ أحد للإستنفار دفاعا عن الكرامة الوطنية التي كرامة الجيش جزء منها.
إقرا أيضا: عودة الحريري أو الفوضى!
لا شك أن الحريري يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية في هذه التسوية المشينة، وكان شريكا، سواء كان مرغما أو بملء إرادته. لكن بيان استقالته يتدارك الأمر، ويمكن اعتباره جدول الأعمال الفعلي للمرحلة المقبلة.
"سموات" المنطقة الملبدة بالغيوم الداكنة، لا يمكن تغطيتها "بقبوات" لغو المسؤولين اللبنانيين والتركيز على إتهام السعودية ب"احتجاز "رئيس الحكومة المستقيل، وما أثار هذا التركيز من "نخوة الكرامة الوطنية".
الذي يثير الريبة أن مثل هذا التركيز يُبطن دعوة للمواجهة مع المملكة، والإصطفاف العلني مع المحور الذي تقوده طهران. أليس هذا ما يدعو إليه السيد حسن نصر الله دائما، وأكده مساء الجمعة، معززا باتهام السعودية بحض إسرائيل على شن حرب على لبنان؟