الدول الكبرى مدعوة للتخلص من الجمع بين المتناقضات إذا أرادت موقعا متقدما في المنطقة
 

 يدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن البحث عن وجود محوري في منطقة الشرق الأوسط يفرض على باريس في هذه المرحلة التخلي عن محاولات الجمع بين متناقضات تتباعد الهوة بينها، إيذانا بمرحلة إقليمية جديدة تقف السعودية في القلب منها.

وسيكون على فرنسا، التي تتطلع شركات كبرى فيها إلى استعادة موقع تقليدي في السوق الإيرانية، تحديد انعكاسات خياراتها على مصالحها السياسية في المنطقة.

وتكمن خيارات القوى الكبرى، التي تبحث عن مواكبة تغيرات المنطقة بشكل عام، في رسم لشكل علاقاتها مع الخليج أو إيران، وليس مع الطرفين في آن واحد.

وقال دبلوماسي غربي “هذا موسم الاختيار، وليس موسم الجلوس على جدار المنتصف والتقاط الفرص من الاتجاهين”.

ولفت مراقبون في العاصمة الفرنسية الأنظار إلى قرار ماكرون بالتوجه إلى السعودية الخميس في زيارة لم تكن مبرمجة للقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وقالت مصادر أوروبية “صحيح أن الرئيس الفرنسي كرر نظريته حول ضرورة التحدث مع جميع الفاعلين في المنطقة، إلا أنه بات أيضا على الدول الكبرى أن يكون لها موقعها المتقدم في قضايا العالم الكبرى وليس فقط لعب دور الوسيط وتقريب وجهات النظر”.

والتقى ماكرون الأمير محمد بن سلمان مساء الخميس في الرياض التي وصلها في زيارة خاطفة تهدف خصوصا إلى احتواء التوتر بين الرياض وطهران.

وقالت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) إن ولي العهد بحث في اجتماعه مع الرئيس الفرنسي “العلاقات السعودية الفرنسية، والشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين، والفرص لمواصلة تطوير التعاون الثنائي ضمن رؤية المملكة العربية السعودية 2030″.

كما تناولت المباحثات “مستجدات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والجهود المبذولة من أجل أمن واستقرار المنطقة، بما فيها التنسيق المشترك لمكافحة الإرهاب”.

ونبهت الأجواء التي وُضع فيها الرئيس الفرنسي أثناء زيارته للإمارات مراكز التفكير الاستراتيجي في باريس إلى خطورة الوضع الذي تمر به المنطقة، والذي يستدعي تدخلا دوليا عاجلا حاول ماكرون استكشافه في الرياض.

الرئيس الفرنسي سمع في أبوظبي والرياض كلاما يعبر عن عزم على مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة من خلال قرارات وتدابير وسياسات صادمة وغير مسبوقة
وكان ماكرون قد قال أثناء تلك الزيارة “سمعت مواقف متشددة جدا” عبرت عنها السعودية حيال إيران “لا تنسجم مع رأيي”، و”في نظري أن العمل مع السعودية على الاستقرار الإقليمي هو أمر أساسي”.

وكشفت مصادر مرافقة للرئيس الفرنسي في زيارته الخليجية أن المسؤولين الخليجيين أبلغوا ماكرون بأن الخطر الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وضد دول الخليج خاصة، بات داهما، وأن دول المنطقة لن تقف مكتوفة الأيدي أمامه.

وسمع الرئيس الفرنسي في أبوظبي والرياض كلاما يعبر عن عزم على مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة من خلال قرارات وتدابير وسياسات صادمة وغير مسبوقة، وأن على المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤوليته في هذا الصدد.

ولاحظت مراجع دبلوماسية غربية في باريس تحوّلا لافتا في موقف فرنسا إزاء إيران، كما رصدت أن الرئيس الفرنسي، الذي طالما أظهر تمسكه بالاتفاق النووي مع إيران، أعلن أن هذا الاتفاق “لم يعد كافيا”، وأن تعديلات يجب أن تدخل عليه، وأن العالم يجب أن يتخذ موقفا ضد برنامج الصورايخ الباليستية في إيران، بما في ذلك فرض عقوبات جديدة على طهران، كما يجب العمل على تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.

واعتبر ماكرون أنه “ينبغي الحفاظ” على الاتفاق على أن “يضاف إليه ركنان: مفاوضات حول النشاط الباليستي لإيران مع عقوبات إذا استدعى الأمر، ومناقشة استراتيجية تحد من الهيمنة الإيرانية في المنطقة برمتها”.

وقال الرئيس الفرنسي من الإمارات “سأسعى إلى إقناع جميع من يريدون إعادة النظر في اتفاق 2015: شركاؤنا الأميركيون والجار السعودي”.

وهذا الموقف الفرنسي الجديد هو نكوص مباشر عن الرؤية الأوروبية للاتفاق النووي، التي بدت خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما “تعلقا بقشة، وتجنبا متعمدا لفتح جبهات جديدة مع إيران، يكمن في جوهره هروب من المسؤولية الدولية”. وقادت هذه المعادلة إلى تراجع النفوذ الغربي عموما في المنطقة، ودفعت القوى التقليدية فيها إلى التصرف بشكل أحادي أمام الكثير من التحديات التي تواجهها.

كما يعكس الموقف الأوروبي، الذي عبر عنه ماكرون في أبوظبي، تقاربا بين بروكسل وواشنطن حيال إيران بشكل عام. لكن هذا لا يعني بعد تخلي الأوروبيين عن الاتفاق النووي كليا.

ونبه ماكرون في مقابلة مع مجلة “تايم” الأميركية، نشرت الخميس، إلى أن إيران ستصبح “كوريا شمالية جديدة” إذا عملت الولايات المتحدة على تقويض الاتفاق النووي الذي وقع مع طهران في 2015.

وحذر ماكرون من أن الوضع قد يتدهور بشكل أكبر، وأضاف “هذا ما سبق أن عشناه مع كوريا الشمالية. وفجأة، نستيقظ بعد عشرة أعوام أو اثني عشر عاما من دون أي مراقبة (فيما إيران) تملك سلاحا نوويا”.

وسجلت مصادر خليجية موقف ماكرون المتضامن مع السعودية في إدانة تعرض عاصمتها لصاروخ باليستي أطلقه الحوثيون من اليمن باتجاه العاصمة الرياض، واعتبرت أن انتقال الرئيس الفرنسي الطارئ إلى السعودية يعبر عن حزم الموقف الفرنسي في رفض الاعتداءات التي تقوم بها إيران على السعودية من خلال الميليشيات الموالية لها في اليمن.

ورأت مصادر خليجية أن الرئيس الفرنسي متوافق مع الموقف السعودي حيال ما يشكله حزب الله من تهديد على لبنان واللبنانيين وعلى النظام السياسي اللبناني كما على جيران لبنان في المنطقة.

ونقلت صحيفة “لموند” تصريحا لماكرون قال فيه “تمنياتي بأن يستطيع كافة السياسيين العيش بشكل حر في لبنان، وهو ما يفترض الاستقرار ونزع السمة العسكرية عن قسم من لبنان وأن تكون هناك سياسة حازمة ضد كل من يريد النيل من أي زعيم في البلد”.

وكشفت مصادر قريبة من وزارة الخارجية الفرنسية أن ما سمعه ماكرون في الخليج سيكون محددا لتحول في الموقف الأوروبي برمته، وأن احتمال تدهور الوضع في المنطقة وتحوّله إلى مواجهة مباشرة شاملة يشكل تهديدا لأمن العالم، لا سيما لأمن أوروبا.