سواء كانت استقالةُ رئيس الحكومة سعد الحريري إحدى تعبيراتِ اشتداد «عصْف» المواجهة السعودية - الإيرانية أو أن «الصاعقة الحريرية» صارت بمثابة «جاذِب» لتأثيرات هذه المواجهة التصاعُدية، فإن الأكيد أن لبنان يمرّ بمنعطف هو الأخطر منذ انفجار الصراع الداخلي بأبعاده الخارجية العام 2005.
وفي اليوم الثالث على الاستقالة المدوّية للحريري، بدا المشهد اللبناني أشبه بـ «مستودع أسئلة» لا تنتهي عن «الغد الغامض» والمسارات الممكنة للخروج من الأزمة التي باغتت الجميع وتنذر بجرّ البلاد إلى قلْب «الإعصار» الآتي تحت عنوان «تقزيم» دور إيران في المنطقة وإنهاء أدوار ذراعها الرئيسية، أي «حزب الله»، وسط مساريْن متوازييْن بقيا محور اهتمام:
* الأوّل استمرار «حزب الله» وحلفائه بمحاولة إسباغ طابع «إجباري» على خطوة الحريري وتصويرها بمثابة «استقالة بالإكراه» بما يَنقل الأزمة من كونها امتداداً للصراع اللبناني المفتوح حول وضعية سلاح الحزب خارج الدولة وأدواره الخارجية - وإن اتّخذ هذا الصراع أحياناً شكلاً صِدامياً وأحياناً أخرى لبوس «حرب باردة» - لجعْلها تعبيراً عن مشكلة لبنانية - سعودية ربْطاً بالسيناريوات المتوالية عن ملابسات الاستقالة.
وبعدما لم تقطع المحادثات التي أجراها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أول من أمس مع الحريري الطريق على محاولة تشتيت الأنظار من فريق «8 آذار» على المعنى السياسي للاستقالة عبر إسباغ الطابع «القاهِر» عليها، جاءتْ الإطلالة الرسمية الثانية للحريري من خارج السعودية لتوجّه رسالة جديدة برسْم هؤلاء وتؤكد أن «قطار الاستقالة» انطلق الى مداره المتّصل بارتهان لبنان إلى أجندة إيران التي تواجه قراراً أميركيا وسعودياً (مع حلفاء لهما) بـ «قصّ أجنحتها».
وفي هذا السياق، برزت الزيارة السريعة التي قام بها الحريري أمس لدولة الإمارات، حيث استقبله ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد «وتم خلال اللقاء عرض العلاقات الاخوية والاوضاع والتطورات في لبنان»، قبل ان يعود رئيس الحكومة المستقيل الى الرياض بعدما كان تردّد أنه سينتقل من الإمارات الى البحرين.
واستدعى التركيز من فريق «8 آذار» على أن الرياض أرغمتْ رئيس وزراء لبنان على الاستقالة، رداً هو الأول من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي اعتبر ان هذا الاتهام «لا قيمة له»، مؤكداً أن «في إمكان الحريري مغادرةُ السعودية ساعة يشاء».
* أما المسار الثاني فيركّز على إمكانية عزْل الأزمة المستجدّة عن قرع «طبول الحرب» على جبهة الرياض - طهران وحلفائهما وتفادي تَمدُّدها الى لبنان بعدما اتّهمت السعودية بلسان الجبير «حزب الله» بالوقوف وراء «العمل الحربي» بإطلاق الصاروخ البالستي من اليمن على الرياض.
وفي هذا السياق، تبدو الخيارات المتاحة أمام لبنان لـ «النفاذ» من هذه الأزمة بأقلّ الأضرار ضيّقة، وسط انطباعٍ بأن «شراء الوقت» الذي يعتمده رئيس الجمهورية العماد ميشال عون باعتبار الاستقالة كأنها لم تُقدَّم بعد بانتظار عودة الحريري الى بيروت وإطلاعه على ملابساتها، لا يعني أن مرحلة ما بعد قبول الاستقالة ستكون معبّدة أمام أيّ حلّ ولا سيما أن «رزمة استحالات» وخطوط حمر باتت تحاصر هذه المرحلة المحكومة باتجاهيْن:
* الأول أن تكون خطوة الحريري الدراماتيكية في سياق رفْع الضغط إلى أقصى حدّ في محاولة لاستيلاد التسوية السياسية بشروط جديدة أكثر توازناً تعيد الاعتبار الى تحييد لبنان وفق منطوق «إعلان بعبدا»، بعدما ظهر على مدار العام الماضي أن هذه التسوية استجرّت مجموعة تراجعات لخصوم «حزب الله» أمام مشروعه الاستراتيجي.
وإذا كان البعض يرى أن الرياض بكلامها حول الصاروخ البالستي ثم مواقف وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان عن «أنّنا سنعامل حكومة لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب (حزب الله)»، كاشفاً ان الملك سلمان وضع الحريري خلال لقائهما في «تفاصيل عدوان (حزب الله) على السعودية»، قامت بما يشبه وضع «البندقية» على الطاولة وأنها توجّه إشارة واضحة لطهران بأنّ المرحلة عنوانها «إما مواجهة شاملة وإما حل شامل»، فإن أوساطاً سياسية ترى أن إمكان ترميم التسوية في لبنان بالغ الصعوبة في ضوء رفض الرياض مشاركة «حزب الله» في الحكومة وفق السبهان الذي أكد انتهاء «زمن التمييز بين (حزب الله) والحكومة اللبنانية»، مضيفاً ان «الحزب موجود في الحكومة والبرلمان وهذا معناه أن جميع الأعضاء (فيهما) موافقون عليه، وأيّ تصرف من الحزب يرتدّ على كل لبنان ولن نميّز».
* والاتجاه الثاني يتضمّن خيارات كلّها تصبّ في خانة تعميق الأزمة أو وضْع لبنان في «عين العاصفة»، ذلك أن أي حكومة تكنوقراط يصعب أن يوافق عليها «حزب الله»، فيما ان أي حكومة يشكّلها الحزب وحلفاؤه لوحده ستعني انفتاح البلاد بالكامل على «الرياح الساخنة» في المنطقة. أما اعتماد خيار التكليف بلا تأليف فيعني أزمة حكم كبرى.