التقط المراقبون مفاجأة سعودية كبرى حين قرر عاهل البلاد الملك سلمان بن عبدالعزيز منح المرأة السعودية حق قيادة السيارة. تنبّه هؤلاء قبل ذلك إلى قرار إنشاء هيئة الترفيه وراحوا يتوسلون مقارنة أهدافها بالأهداف التي أقيمت من أجلها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي تأمل تلك القرارات ما قاد إلى استنتاج أن الملك وولي عهده الأمير محمد بن سلمان منخرطان في مغامرة جريئة تسقط محرمات أبى ملوك السعودية أو عجزوا قبل ذلك عن إسقاطها.
والحال أن المفاجأة التي أيقظت المهتمين بالشأن السعودي أيقظت أيضا السعوديين أنفسهم. اعتاد المجتمع السعودي على نمطية في الحكم وتداوله على نحو جعله مدركاً لأدوات وصيغ التعامل مع السلطة وهيكلياتها. وتعايش هذا المجتمع مع هذه الثنائية التي جمعت الدين بالسياسة ومع ذلك التقاطع المفترض بين مؤسسة الدين ومؤسسة الحكم. وعليه فإن الزلزال الذي ضرب تلك الثوابت منذ بدايات عهد الملك سلمان أحال السعوديين إلى متلقين للحدث يعيدون تعلّم ألف باء البلد في التعايش مع تغييرات جذرية صاعقة أدخلتها قيادة البلاد على منظومات المجتمع والمال والثقافة والأمن والسياسة والحداثة.
وفيما كان السعوديون والمراقبون لشؤون المملكة ينتظرون هدوء كل عاصفة، كانت عواصف أخرى تهبّ مصدرها القصر الملكي، بحيث لم يعد هناك شك أن تمارين التغيير في السعودية نهائية، وليست مزاجا ظرفيا مرتبطا بشروط الحكم وقواعد ممارسة السلطة.
وقبل أن يكتشف خبراء المملكة سرّ تلك الجرأة التي أطاحت بالجمود الاجتماعي وبموقع المرأة في المجتمع وفتح فضاءات الاختلاط وعلاقة البلد بالتكنولوجيا وإقامة المدن العصرية الواعدة، يمعنُ الحاكم في إصدار قرارات أكثر جرأة لم تكن تخطر على بال. فإذا ما انتظر البعض اليوم الذي سيسمح فيه للمرأة بقيادة السيارة وللمجتمع أن ينخرط في أنشطة الثقافة والترفية، فإن لا أحد كتب أو توقع أو تصور أن يتجرأ الحاكم على المسّ برموز العائلة المالكة وأهل السلطة، ولا أحد تخيّل أيضا أن تنال الدولة من نجوم المال والأعمال السعوديين الذين باتوا ركناً ثابتا ووجها تقليديا من أركان ووجوه وثوابت السعودية دولة وبلدا.
وأيا كانت حوافز القرارات الأخيرة التي أدت إلى إيقاف أمراء ووزراء، فإن في الأمر تمردا على نمطية حكم ساد المملكة مند قيام الدولة السعودية الحالية في ثلاثينات القرن الماضي. وفيما كانت مداولات السلطة وشؤونها في السابق، حتى في حلقاتها الحرجة والمتوترة، تجري داخل جدران سميكة قلّما أفصحت عن تفاصيلها، فإن الجدل الحالي يجري علنيا ترفده قرارات ومراسيم وتدابير وإجراءات لا تستثني أحداً، بحيث أن السلطة التي تحاسب الأمراء والمسؤولين باتت تمتلك شرعية محاسبة السعوديين برمتهم.
قد يجوز التسليم بأن ما حصل في ليلة واحدة يعدّ انقلابا حقيقيا لم يشهد تاريخ المملكة مثيلا له. وإذا ما أراد مروّجو “الانقلاب” النيلَ من سلوك السلطة وانتقاد المملكة في سياق الخلاف مع قطر أو ذلك مع إيران، إلا أنه، وبغض النظر عن حسابات الخصوم، فإن انقلابا حقيقيا طرأ على كلاسيكيات ممارسة السلطة في السعودية أنهى حالة التعايش التقليدي بين قمة الهرم وأمراء العائلة المالكة، وأطاح بأبجديات تقاطع سلطة المال والإعلام بسلطة السياسة والأمن. بكلمة أخرى يستيقظ السعوديون على حقيقة جديدة مفادها قيام الدولة وتفوّق مصالحها وشروعها بالقيام بدورها الكامل، متخلصة من أي تواطؤ مع شبكات ما دون الدولة باسم مقدّس العائلة واستثنائية أفرادها.
ليس لغير السعوديين أن يحكموا على إدارة ملكهم لبلدهم في زمن كثر فيه المجتهدون في المحيط والعالم لتفسير الظواهر وتحليل التطورات واستشراف ما بعدهما في المملكة. “أهل مكة أدرى بشعابها”، وبالتالي فإن للسعوديين، شعبا ونخبا ومؤسسة ملكية، أن يرسموا ما يجدونه صالحا لبلدهم. وإذا ما يشهد عهد سلمان بن عبدالعزيز تسارعا صاعقا في إيقاعات تحديث المملكة وربطها بسكك العصر وشروطه، فإن ذلك عائد أيضا إلى تأخر ذلك التحديث، وبالتالي فإن دراماتيكية ما يتخذ من قرارات صادمة هذه الأيام مرده عجز السعودية قبل ذلك عن الانخراط في إصلاحات مجتمعية واقتصادية وسياسية كان يفترض أن تأخذ على مدى العقود الماضية إيقاعا طبيعيا سلسا.
لو قُيّض للحكم في السعودية أن يسمح للمرأة بقيادة السيارة قبل ثلاثين عاما لما كان للأمر وقع الصاعقة هذه الأيام، ولو لم تطح “الصحوة” منذ عام 1979 بعاديات رواج الثقافة والفنون والمسرح والسينما والموسيقى، لما احتاجت الدولة هذه الأيام لهيئة رسمية للترفيه، ولو استطاع الحكم في السعودية تنظيم علاقة الحكم بالعائلة وعلاقة القانون مع السعوديين جميعا، لما أضطر الحكم الحالي لحسم أمر ذلك ومواجهة أهل السلطة نفسهم أو المنتفعين منها أمراء كانوا أم وزراء.
ليس لنا أن نحكم على التطورات في المملكة فذلك أمر سعودي يحتاج إلى نقاش سعودي. لكن لنا أن نراقب الحدث ونستنتج أن المملكة تغيرت، ليس فقط بسبب مزاج وأسلوب وشخصية الحكم الحالي، بل بسبب حاجة البلاد نفسها إلى ورشة ترشيق كبرى تطال مفاهيم ومسلمات وثوابت وسمت السعودية بسمعة معيّنة باتت أصلا بيولوجيا من وجودها.
بات على الحاكم، لأنه يملك القدرة والقرار، القطع مع هذا اللبس الذي واكب علاقة السلطة مع الدين. وبات من الواجب القطع مع ثقافة وتقليد يجعلان من الإرهاب الذي تعاني منه المملكة نفسها وجهة نظر يجوز فيها الاجتهاد. وبات مطلوبا حسم موقع الدولة نفسها لجهة وظيفتها الريادية، لا سيما في بلد كالسعودية، لدفع البلد باتجاه مراحل متقدمة تتسق مع طبيعة التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية، وحتى الوجودية، التي تداهم العالم وتطل على المملكة بشكل ضاغط لا وقت لمداراتها أو تأجيل مقاربتها.
ربما تكثر التساؤلات حول قدرة السعودية على مواجهة ملفات عديدة خطيرة تتعلق بعلاقتها مع الخارج وترتبط بأمن المملكة الاستراتيجي. وتكثر تساؤلات جديدة حول قدرة المملكة على التصادم مع ملفات الداخل في نفس الوقت الذي تواجه به ملفات الخارج. لكن تأملاً آخر للمسألة يطرح أسئلة جديدة عما إذا كانت المملكة تملك خيارات أخرى غير هذه المواجهة الشاملة، وعمّا إذا كانت ملفات الخارج والداخل باتت مترابطة متناسلة في ما بينها على نحو يجعل المعركة تأخذ هذا الشكل الواسع المتعدد.
ربما يجب التذكير أن أمام الحاكم، من أجل الحفاظ على استقرار الحكم خيار التعايش بسهولة مع الأمر الواقع مهما كان مشوّها يرث التشوّهات، ففي ذلك صون لجماد وتجنّب لجلبة تشوّش على يوميات الحكم.
وأمام الحاكم، من أجل قواعد بقاء وتطور واستقرار هذا الحكم أيضا، خيار الإطاحة بالسائد وتفكيك ما هو متقادم وضرب العفن داخل أروقة السلطة وسلوكياتها، وفي ذلك توق نحو اقتحام منافذ وفتح سبل يكثر حولهما غبار كثيف مقلق.
وإذا ما كان الحكم خيارا، فإن الحاكم في السعودية اختار السبيل الأصعب، ذلك أن جراحات باتت ضرورية لمداواة علل تم تجاهلها طويلاً ولم تنفع معها العقاقير المسكنة.