احدثت استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة ارتجاجات سياسية كبيرة، تكاد تلامس بقوتها الزلزال السياسي، الذي من شأنه ان يُعيد ترتيب الوقائع السياسية في لبنان، وسط احتدام المواجهة العربية - الإيرانية، والمواجهة الأميركية - الإيرانية على خلفية البرنامج النووي ودعم جماعات مسلحة، من بينها حزب الله، متهمة بالقيام بأنشطة ليست خفية في سوريا والعراق واليمن وصولاً إلى بلدان الخليج.
ومنذ اللحظة الأولى لبيان الاستقالة السبت الماضي، تبدّل الموقف رأساً على عقب، وارتفعت أسهم القلق، وتطايرت الأسئلة عمّا جرى، ولماذا وكيف؟ وتتالت الاتصالات والاستفسارات والتعليقات والدعوات إلى التهدئة والتزام عدم التصعد، بانتظار جلاء الموقف، وعودة الرئيس الحريري إلى بيروت، والتي لا تبدو انها قريبة.
ومع ان الخطوة لم تكن مرتقبة، أو في الوارد أقله في المدى المنظور، الا ان حدوثها لم يُشكّل مفاجأة وحسب، بل صدمة قوية، فرضت على اللاعبين تحدياً ليس سهلاً، بأن قواعد اللعبة تغيّرت في لبنان، وربما في المنطقة، في سياق استعار المواجهة بين إيران والعرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
في الأسباب، بعض مما ذكره الرئيس الحريري في كتاب الاستقالة من أن «فئات لا تريد الخير للبنان دعمت من الخارج وأنشأت دولة داخل الدولة، مشيراً إلى إيران التي ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب، يشهد على ذلك تدخلها في الشؤون الداخلية للبلدان العربية في لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن».
وأشار الرئيس الحريري في كتاب الاستقالة إلى اننا «نعيش أجواء شبيهة بالاجواء التي سادت قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وقد لمست ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياتي».
وجاء في حيثية الاستقالة «ولأنني لا ارضى ان اخذل اللبنانيين أو اقبل بما يخالف مبادئ ورثتها عن والدي ومبادئ ثورة الأرز العظيمة، فإني أعلن استقالتي من رئاسة الحكومة، مع يقيني ان اللبنانيين سيكونون قادرين برجالهم ونسائهم على التغلب على الوصاية من الداخل أو الخارج».. مختتماً: «أشكر كل من تعاون معي ومنحني الثقة».
وهكذا وجد لبنان نفسه امام أزمة كبيرة، ووسط تحديات إضافية سواء في الأمن وحماية استقرار الليرة والنقد والحفاظ على الاستقرار والانتظام العام الذي كانت توفّره حكومة الرئيس الحريري، على الرغم من الانقلابات المتتالية على التسوية السياسية، التي أنجزها الرئيس المستقيل، واحترمها، وسط ظروف صعبة، لم يحترمها شركاؤه من اللبنانيين لا في الداخل ولا في الخارج.
وإذ سارعت كتلة «المستقبل» إلى عقد اجتماعات مفتوحة لمتابعة الموقف، معلنة تأييدها ودعمها الكاملين للرئيس الحريري ومواقفه، أشار رئيس الكتلة الرئيس فؤاد السنيورة الذي تحدث مع رئيس الحكومة المستقيل، ان هناك «في الأساس مشكلة، وهي العبء الكبير الذي تحمله الرئيس الحريري على مدى الأشهر الـ12، لذلك وصلنا إلى ما وصلنا اليه».
ودعت كتلة «المستقبل» في اجتماعها الثاني أمس اللبنانيين إلى «التنبه والتبصر في المخاطر التي يتعرّض لها لبنان نتيجة الاختلال في التوازن الداخلي والمخاطر الخارجية الناتجة عن استمرار وتصاعد التورط الإيراني وحزب الله في الصراعات الدائرة في المنطقة».
وفي إطار مرحلة ما بعد الاستقالة، كشف القصر الرئاسي ان الرئيس ميشال عون تلقى اتصالاً من الرئيس الحريري واعلمه باستقالة حكومته، على ان يبني الرئيس على الشيء مقتضاه بعد عودة الرئيس الحريري.
وبعد الظهر، نشر رئيس الحكومة المستقيل صورة على صفحته على «تويتر» تجمعه إلى السفير السعودي المعيّن في بيروت وليد اليعقوب.
وارفق الصورة بالتعليق التالي: «بعد ادائه للقسم امام خادم الحرمين الشريفين سررت بلقاء سعادة السفير السعودي». وقد اشاعت هذه الصورة ارتياحاً في أوساط تيّار المستقبل.
دار الفتوى
وعلى خط مواز، أكّد مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، بعد استقباله أمس في دار الفتوى القائم باعمال السفارة السعودية في لبنان الوزير المفوض وليد بخاري ان استقالة الحريري لم تأتِ من فراغ وهي شكلت صدمة ونحن نؤيده وندعمه ونتفهم هذه الاستقالة، وينبغي ان نعالجها بالروية والحوار، مشيراً إلى ان السعودية حريصة على أمن واستقرار لبنان وتريد له الخير كما تريده لسائر البلدان العربية.
وشكلت زيارة الرئيس نجيب ميقاتي لدار الفتوى أمس حدثاً، خاصة وانه طرح على المفتي دريان مبادرة للخروج من الأزمة الحالية، فضل عدم الإعلان عن تفاصيلها، لكنه علم ان إحدى بنودها تقضي بعقد اجتماع للمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بكل أعضائه، بمن فيهم رؤساء الحكومة السابقون لتجديد الالتزام بوثيقة الثوابت الوطنية لدار الفتوى.
ونفى الرئيس ميقاتي ان يكون موضوع ترشحه لرئاسة الحكومة وارداً لا من قريب ولا من بعيد، كاشفاً بأن مبادرته لا تتضمن ان يكون مرشحاً لرئاسة الحكومة في الوقت الراهن، داعياً إلى الاتفاق على الشخصية السنية المناسبة تحت سقف دار الفتوى.
بعبدا
في غضون ذلك، واصلت مصادر رئاسة الجمهورية رفضها لليوم الثاني، التعليق على موضوع استقالة الرئيس الحريري من الخارج، بانتظار الاطلاع منه شخصياً على ظروف الاستقالة، لتبني على الشيء مقتضاه.
وفهم من المصادر نفسها ان أي كلام آخر لا يقع الا من باب التكهن، وانه في انتظار تبيان حقيقة الأمور لن يصدر بيان قبول الاستقالة أو رفضها، ولا بيان استشارات التكليف.
وأكدت مصادر الرئاسة، ان الاتصالات والاجتماعات التي أجراها الرئيس عون داخلياً وخارجياً، منذ الاتصال الوحيد الذي تلقاه من الرئيس الحريري، وابلغه باستقالة حكومته، صبّت كلها في إطار تحصين الوضع اللبناني والمحافظة على الوحدة الوطنية والاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي بما في ذلك الاتصال بالرئيس المصري عبد الفتاح السياسي حيث تبلغ منه وقوف مصر إلى جانب لبنان، ومع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي أكّد له دعم الأردن لكل ما يحفظ استقرار لبنان، فيما كانت الاتصالات مع عدد من الأقطاب السياسيين والقيادات العسكرية والأمنية والروحية والمالية بهدف ضبط الوضع الامني والمالي والاقتصادي ومنع أي خلل.
وأفادت انه منذ شيوع نبأ الاستقالة لم تهدأ اجتماعات الرئيس عون التي انعقدت بعيداً عن الأضواء بهدف التشاور لتقرير ما يمكن عمله فيما كان البارز التروي في إطلاق المواقف.
وعلمت «اللواء» ان هناك اجتماعات سيترأسها الرئيس عون اليوم تباعاً، وتصب كلها في الإطار عينه, ويعقد اجتماع أمني موسع برئاسة الرئيس عون في قصر بعبدا، يحضره قائد الجيش العماد جوزيف عون وقادة الأجهزة الأمنية للتباحث في التنسيق واتخاذ الاجراءات اللازمة لحماية لبنان من أي اهتزازات.
اقتصادياً، أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن المصرف أصدر بياناً شدّد فيه على أهمية أن تبقى الليرة مستقرة، مؤكداً ان الأزمة سياسية وحكومية، وليست نقدية، كاشفاً عن إجراءات اتخذت لتجاوز أزمات سابقة..
سياسياً تحدثت مصادر مطلعة أن الرئيس عون، سيتريث في بت موضوع الاستقالة، وانتظار عودة الرئيس الحريري والوقوف على الأسباب التي أدت إلى الاستقالة، ولم يعلنها صراحة في بيان الاستقالة.
أما الرئيس نبيه برّي الذي التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شرم الشيخ، فدعا إلى تهدئة النفوس، واصفاً لقاءه مع الرئيس المصري بأنه يفتح بابا كبيراً للإنفراج.
وهو اتصل بالرئيس عون ووضعه في أجواء اللقاء.
وفي إطار المواقف، دعا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى الهدوء وعدم القلق، مؤكداً حرصه على الأمن والاستقرار، نافياً أن يكون هناك أي سبب داخلي للاستقالة..
وغرّد النائب وليد جنبلاط، عبر حسابه الخاص على موقع التواصّل الاجتماعي «تويتر»، قائلاً «أكثر من أي وقت مضى فإن لمرحلة تتطلب الهدوء واحترام الدستور واحترام والمؤسسات وكلام السيّد حسن في غاية المسؤولية وان كنت لا اشارك بعضاً من مضمونه».
ومن جهته، أسف البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي «لاستقالة الرئيس الحريري، وللظروف التي قادته إليها، معرباً عن خشيته من «تداعياتها على الاستقرار السياسي وما يرتبط به من نتائج».
ونبّه إلى أية مكيدة أو أي مخطط تخريبي يهدف إلى ضرب الاستقرار في الوطن، أو إلى استدراجه للإنخراط في محاور اقليمية أو دولية لا تتلاءم وطبيعته وقيمه ودوره كعنصر تعاون واسقرار وعيش مشترك في محيطه الشرق أوسطي.
دولياً وعلى وقع دعوات سفارات ودول رعاياها لمغادرة لبنان، أعلن المتحدث باسم الأمم المتحدة أمس أن الأمين العام انطونيو غوتيريش عبر عن القلق حيّال إعلان الرئيس الحريري استقالته، داعياً للحفاظ على «مؤسسات الدولية اللبنانية واستقرارها، معلناً التزام الأمم المتحدة» أمن لبنان وسيادته ووحدة أراضيه.