يسمح صمت الرئيس سعد الحريري حتى مع أقرب المقربين إليه، بكثرة التحليلات حول نتائج زيارته إلى المملكة العربية السعودية، والعودة مجدداً إلى هناك. من يلتقي بالحريري يقول إنه يلتزم الصمت، وهي أكثر المراحل التي لا يفاتح فيها أياً من المقربين منه بأي تفاصيل. حتى أجواء زيارته الأولى إلى السعودية قبل أيام، لم يخبر تفاصيلها أحداً، وبالكاد حصل مدير مكتبه نادر الحريري على مضمون اللقاء، وما هو المطلوب في المرحلة المقبلة. الزيارة الثانية بعد ساعات من الأولى، جاءت مفاجئة لصقور المستقبل، الذين يعتبرون أن الحريري لا يتفوه بأي كلمة، سوى أن السعودية حريصة على لبنان والاستقرار فيه. أما عن الزيارة الثانية فيكتفون بالقول إنها زيارة عمل. فيما تشير مصادر متابعة إلى أنها تأتي استكمالاً للزيارة الأولى، إذ سيسعى الحريري للقاء الملك سلمان بن عبد العزيز، لأنه لم يستطع اللقاء به في الزيارة الأولى.
ما بين الزيارتين، أحداث عديدة حصلت. أبرزها توجيه دعوة سعودية إلى البطريرك بشارة الراعي لزيارة المملكة، وهذه خطوة لافتة ونادرة جداً، إذ ستكون زيارة أول بطريرك ماروني يمثّل الكنيسة الكاثوليكية إلى السعودية. وتشير المصادر إلى أن الراعي سيزور السعودية بعد أسبوعين وسيقام له احتفال حاشد ولافت. تريد السعودية من خلال هذه الزيارة التأكيد على عمق العلاقة مع المسيحيين، وتوجيه رسالة إلى اللبنانيين، بأنه إذا ما كان حزب الله يحظى بالشرعية المسيحية من خلال رئيس الجمهورية المسيحي الماروني، فهي تتمتع بعلاقات أكبر وأوسع، فقد استقبلت سابقاً زعماء الموارنة، وستستقبل رأس كنيستهم. وهي ستؤكد للبنانيين وللمجتمع الدولي أنها منفتحة على كل الأطراف والطوائف، من ضمن سياسة الانفتاح، التي تخوضها السعودية داخل المجتمع السعودي وخارجه.
حدث آخر أيضاً قبل ساعات من توجه الحريري في زيارته الثانية إلى المملكة، وهو لقاؤه بمستشار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي أكبر ولايتي، ولا يمكن فصل هذا اللقاء عن كل التطورات في المنطقة. وقد أكد ولايتي للحريري حرص إيران على الاستقرار والتسوية في لبنان. وهذا ما سينقله للسعودية، في محاولة منه للإشارة إلى ضرورة الحفاظ على الاستقرار، كي لا تظهر إيران وكأنها حريصة عليه فيما السعودية تريد التصعيد. وفيما يؤكد الحريري أن السعودية حريصة على الاستقرار، هناك بعض المعطيات تفيد بأن هذا الاستقرار لا يمكن أن يكون مقروناً بسيطرة حزب الله والتسليم بسطوته، بل يجب أن يبقى مدعوماً برفع الصوت ضد الحزب ونشاطه وما يفعله في لبنان والمنطقة. وهذه كلها كان الحريري قد سمعها في الزيارة الأولى، ووعد السعوديين بإعادة إنتاج خطاب يحفظ التوازن.
قبل عودته إلى لبنان، أجرى الحريري اتصالاً بالرئيس نبيه بري، الذي أوصل رسالة إلى حزب الله، بأن التسوية باقية، وبأن الحريري لن يستقيل من الحكومة. وهدف الرسالة هو الطمأنة، والإشارة إلى أن لبنان سيبقى بعيداً من أي تداعيات لما يمكن أن يحصل في الخارج. ولدى وجوده في لبنان، تلقى الحريري أجوبة من بري والنائب وليد جنبلاط، من خلال لقائه مع كل من الوزير علي حسن خليل والنائب وائل أبو فاعور، حيث جرى تشديد على الحفاظ على التسوية والاستقرار، مع إعادة إنتاج قاعدة ربط النزاع. وقد قال الحريري لأبو فاعور، وفق مصادر متابعة، إن السعودية مصممة على المضي في المواجهة مع إيران وحزب الله، للوصول إلى مرحلة لا يعود الحزب فيها قادراً على التأثير في دول الجوار والقرار اللبناني.
وقد تكون الزيارة الثانية، هي للعودة إلى السعودية بالأجوبة اللبنانية، فيما هناك من يشير إلى أن ولايتي حمّل الحريري رسالة إيرانية، بضرورة التهدئة في هذه المرحلة، وإنتظار بلورة الحل السياسي في سوريا. وهذا ما يعتبره البعض محاولة إيرانية للتهدئة والدخول في حوار، استباقاً لأي تصعيد قد يحصل في المنطقة، ولسحب فتيل التصعيد السعودي والأميركي، على قاعدة أن لدى إيران أوراقاً كثيرة قادرة على اللعب بها، أو تقديمها على سبيل تنازلات.
لا شك أن السعوديين لا يريدون كسر الحريري، ولا إحراجه لإخراجه، لكنهم في الوقت نفسه لن يقبلوا ببقاء الوضع على ما هو عليه. لذلك، يشددون على العودة إلى صيغة ربط النزاع مجدداً، لأن تجربة التسوية الرئاسية قد فشلت، ولم يعد بالإمكان الاستمرار بها. ثمة من يعتبر أن السعودية تلعب مع الحريري عند الخطّ الأحمر. المطلوب استنفاراً، وليس إسقاط الحكومة أو الإستقالة منها. وهذا ما نجح الحريري في إقناع السعوديين فيه. لأن ارتدادت ذلك لن تكون في مصلحته ولا في مصلحتهم.
وسط هذا التضارب في المقاربات، هناك رأي آخر يفيد بأن الحريري محرج، وهو عاد إلى لبنان للاستئناس بآراء بعض المعنيين والمقربين منه، والعودة إلى السعودية للاستمرار في بحث الملفات، لأن السعوديين يبحثون مع الحريري ملفات كبرى، تتخطى لبنان وتشير إلى الوضع الجديد الذي سيطرأ على المنطقة في الأشهر المقبلة، مع ارتفاع منسوب الحديث عن توجيه ضربات أميركية لحزب الله في سوريا.