أدت القمة الثانية للرئيس فلاديمير بوتين ومرشد الثورة آية الله علي خامنئي، للعودة إلى شعار «لا شرقية ولا غربية» الذي أطلقه الإمام الخميني في مطلع الثورة. القمّة أكدت على التحالف الاستراتيجي بين موسكو وطهران. الرئيس حسن روحاني قال بوضوح «روسيا بلد صديق.. وشريك استراتيجي لإيران».
القمّة بدأت ثلاثية مع الرئيس الأذري إلهام علييف، واستمرت ثنائية. القمة الثلاثية كانت همومها إقليمية تتعلّق بالعمل على صياغة اتفاقات نهائية تتعلق بمستقبل بحر قزوين. أما القمة الثنائية الروسية - الإيرانية، فعملت على «ضبط الساعات»، في القضايا المشتركة. من الطبيعي أنّ شراكة واسعة، تتضمن مهما كانت التفاهمات شاملة وعميقة قضايا خلافية تبعاً لمصالح كل طرف من الطرفين مع الأخذ في الاعتبار، أنّ روسيا دولة كبرى لها مصالح كثيرة على مساحة العالم وبموازاة الدولة الكبرى الأساسية الولايات المتحدة الأميركية. ومع الأخذ في الاعتبار «التنّين الصيني» وقابليّته الشرهة في مجالات استراتيجية واقتصادية ضخمة جداً.
سوريا، كانت الحاضر الكبير في المفاوضات والمحادثات في القمّة، وما ذلك إلا لأنّ ملفاتها المعقّدة جداً موضوعة على «النار»، وأنّ «الطباخ»
الأول فيها هو فلاديمير بوتين شخصياً، وأنّ مؤتمر سوتشي بعد «آستانة»، مهم جداً، حتى لو كانت بدايته معقّدة.
رغم التكتّم الشديد حول مسار المفاوضات وطبعاً النتائج، فإنه يمكن القراءة من خلال التصريحات المتبادلة، أنّ عملية «ضبط الساعات» حول سوريا لم تكتمل. وإذا كان الاتفاق قائماً على المبدأ فإن الاختلافات وحتى الخلافات ما زالت عديدة وعميقة، علماً أنّ الطرفين خصوصاً المرشد خامنئي يعترفان وعلى لسان الأخير: «إن حل الأزمة في سوريا بالكامل يحتاج إلى تعاون وثيق بين إيران وروسيا».
الخلاف يبدأ، من أنّ إيران تهدف إلى «عزل الولايات المتحدة» بينما موسكو لا تفكر حتى بذلك، وهي تتحرك وتعمل بالتفاهم مع واشنطن. وإذا كان الاتفاق قائماً على «وجوب تثبيت الأمن والاستقرار في سوريا عبر الحل السياسي»، فإن الاختلاف واقع حول طبيعة هذا الحل.
قد يُقال إنّ موسكو كما طهران تريد بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة. الفرق أن الأخيرة تريده إلى «الأبد»، في حين أن موسكو لا تضع خطاً أحمر حول مستقبله بعد العام 2021، وهو موعد انتهاء ولايته الرئاسية. أيضاً، وتبعاً لإنطلاق موسكو من علمانيّتها، بخلاف طهران. فإنّ الأولى تعمل على نشوء دولة فيدرالية تأخذ في الاعتبار تشكّل سوريا وإفرازات الحرب الطويلة. في حين أنّ إيران تريد سوريا دولة مركزية بنظام أسدي وكأنّ شيئاً لم يتغيّر. طبعاً توجد اختلافات حول تقاسم النفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية، وهذه تتطلّب تفاهمات تعتمد على طبيعة حضور كل دولة في سوريا القادمة سياسياً وعسكرياً.
من الآن وحتى يقع التفاهم الشامل يبدو أنه ما زال للقوة العسكرية الحضور الأكبر. رئيس الأركان الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف وصل طهران قبل 24 ساعة من وصول الرئيس بوتين حيث التقى نظيره اللواء محمد باقري. محادثات رئيس الأركان تؤكد البحث الميداني المباشر في تطورات الوضع العسكري، خصوصاً أنّ إيران تتولى البرّ وحاجاته، وأنّ موسكو تتولى الجوّ وأسلحته.
أهمية التفاهمات الروسية – الإيرانية أنها تنطلق من الحاجات المتبادلة. إيران ليست مشدودة إلى روسيا من باب الحاجة فقط، وإنما هناك نوع من التكامل في الطلب والعطاء، مما يسمح ببناء اتفاقات متوازنة، مرتبطة بطموحات استراتيجية ضخمة. وإذا كان النفط والغاز في قلب هذا التعاون، وقد تأكد في اتفاقات ضخمة تصل إلى ثلاثين مليار دولار، فإنّه تمّ التوصل إلى اتفاقات تتناول مشاريع ضخمة للبنى التحتية الإيرانية.
لا شك أن الملف النووي كان أساسياً. موسكو قدمت دعمها الكامل لطهران في مواجهة الموقف المتشدد للرئيس ترامب على قاعدة أنّ الوكالة النووية هي التي تقرّر ما يجب عمله، وطهران عقدت مع موسكو اتفاقاً لبناء ثلاثة مفاعلات نووية ينتهي بناء الأخير عام 2026 مع كلفة تصل إلى عشرة مليارات دولار.
كل هذه الاتفاقات ليست محدودة الزمان ولا الجغرافيا. يجري التخطيط الجدّي لربط إيران بأوروبا عبر روسيا، من المشاريع المطروحة مثل بناء خط أنابيب نفط من إيران إلى الهند عبر روسيا. وربط مرفأ بندر عباس على الخليج مع مرفأ هلسنكي. مما يعني تغيير قواعد الجغرافيا، فبعد أن كانت عازلة تصبح عامل وصل واتّصال بين عالمَين متباعدَين.
القمّة في طهران كانت ثنائية، لكن إسرائيل حضرت وهي الغائبة عبر الغارة الجوية على سوريا. «الرسالة» واضحة العنوان والمضمون، بأنّه لا يمكن تجاهلها ولا وأد مطالبها خصوصاً بكل ما يتعلق بأمنها انطلاقاً من أن الوجود الإيراني الواسع في سوريا غير مقبول منها. هنا يأتي التفاهم الروسي - الأميركي حول مستقبل سوريا والمنطقة، الحل الذي يثبت سقفاً مشتركاً للمطالب الإسرائيلية والطموحات الإيرانية في وقت واحد.
موسكو تريد من هذا التعاون أن تكون مقرّرة في العالم عبر الشرق الأوسط، وإيران تريد أن تكون حاضرة في القرارات الشرق أوسطية عبر الانحياز والتعاون مع موسكو.
العالم يتغيّر، فماذا عنّا نحن الذين نستذكر اليوم مئويّة وعد بلفور؟