لا ينم الاحتفال البريطاني الرسمي، الأول من نوعه ربما، بمئوية وعد بلفور، عن عداء متجدد للعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، بل عن استخفاف وازدراء للمشاعر الفلسطينية والعربية. وهما أسوأ وأخطر من عداوة مكبوتة أو موروثة.
حسب التاريخ البريطاني نفسه، فإن الوعد الشهير لم يكن في الغالب مدعاة للفخر، وإنما للحرج الذي بلغ في مرحلة من مراحل توهج القضية الفلسطينية حد الاعتراف بالخطأ والتعهد بالعمل على تصويبه، بما يزيل ما لحق بالمملكة المتحدة من عار أخلاقي وإنساني، أقرّ به بريطانيون كثيرون في ما مضى.. لكنهم تفادوا طبعاً فكرة الاعتذار المطلوب، كي لا يؤدي بهم إلى التورط في تعويض الضحايا الفلسطينيين.
الاحتفال بالمئوية هو انقطاع حاد عن ذلك التاريخ، وانفصال تام عن مسؤولياته. هو يتصالح مع واحد من أبشع رموز الحقبة الاستعمارية الفائتة، ويرفعه إلى مرتبة سامية في الرواية السياسية البريطانية. ولعله يؤسس أو يطمح ضمناً لمصالحات مع بقية مخلفات الارث الاستعماري، بما يرسخ جذور الوطنية البريطانية المهددة بالتصدع الداخلي وبالتحدي الأوروبي الخارجي.
لا تمثل استضافة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، بالضرورة، تحولاً في الموقف البريطاني من الدولة اليهودية ولا من يمينها الحاكم، كما لا تعبر عن حاجة بريطانية خاصة إلى تملق يهود المملكة أو كسب ود يهود أوروبا أو يهود العالم. وهي بلا شك لا تساهم في دفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا في تعزيز دور بريطانيا في هذه العملية. وهو ما لا يبدو هاجساً أو مصدر قلق لدى الحكومة البريطانية، طالما أن السلام الفلسطيني الإسرائيلي هو خارج جدول الاعمال الدولي.
ما يجرح في هذا الاحتفال البريطاني الإسرائيلي، هو ذلك الازدراء للضحية الفلسطينية والعربية، التي كانت ولا تزال ترفع الصوت مطالبة بالعدل والحق، والتي لطالما توجهت إلى المملكة المتحدة على أمل أن يكون ظلمها التاريخي حافزاً لمزيد من الالتزام بحماية الشعب الفلسطيني وتحريره من نير الاحتلال المبني على ذلك الوعد المشؤوم.
كان يمكن للاحتفال أن يبدو وكأنه وعد بريطاني جديد لليهود ولدولتهم، لو أن الإسرائيليين يحتاجون بالفعل إلى نص تأسيسي ثانٍ لكيانهم، الذي تحصنه سلسلة لا متناهية من الانتصارات العسكرية والسياسية التي لا جدال فيها، وتصونه سلسلة متلاحقة من الانكسارات للفلسطينيين ولعمقهم العربي الذي بات اليوم بلا أي وزن أو تأثير.
ليس وعداً جديداً لكنه بلا شك تعبير عن ميلٍ غربيٍ عام، للتنصل حتى من المسؤولية الأخلاقية عن القضية الفلسطينية، التي باتت، في الوعي البريطاني والغربي عموماً، جزءاً من المواجهة مع الإسلام ومندوبيه الجدد الذين ينشرون بسياراتهم الرعب في شوارع بريطانيا وأميركا وألمانيا وفرنسا.. وهو ما لم يكن يحلم به الإسرائيليون الذين يشهدون اليوم اعترافاً غربياً جديداً، لا بدولتهم، وإنما بتميز تلك الدولة عن جميع الدول العربية المجاورة لها. وبالحاجة ربما في مرحلة لاحقة إلى تقديمها كنموذج مثالي لجيرانها العرب.
قد يبدو الاحتفال في هذا السياق تجديداً لوظيفة تلك الدولة اليهودية، لولا محاذير الانجرار مجدداً وراء السردية القومية القديمة التي تعلي من شأن إسرائيل بصفتها منصة للتقسيم والتفتيت في بلدان ومجتمعات عربية كان يسودها الوئام والانسجام، ولم تعرف في تاريخها لا الحروب الأهلية ولا الفتن الطائفية ولا الصراعات الحدودية، قبل أن يحط اليهود على أرض فلسطين.
ما يؤلم هو أن بريطانيا تخطو خطوة واسعة نحو تعديل جذري في الثقافة السياسية البريطانية والغربية، التي كانت تموه الحق الفلسطيني بالواجب اليهودي.. وهو ما ينذر بطمس واحد من أهم عناصر الرواية الفلسطينية والعربية، ويهدد بتقويض شرعية الصراع الذي كان وعد بلفور طليعته، وما زال.
وهنا أيضاً لا يُلام البريطانيون ولا يُحاسب الإسرائيليون، إذا صدق وعدهم وساد طوال مئة عام.