يكشف تحول ميزان القوى في شمال العراق عن نفوذ الأكراد المحدود في أي مفاوضات مستقبلا. كما يكشف عن الدور المهيمن الذي لعبته إيران في تغيير مصير المنطقة الكردية بعد مقامرة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني بالحكم الذاتي في استفتاء جسور على الاستقلال. وكان ثمن خسارة الرهان باهظا على جميع الأطراف المعنية.
اليوم، يشعر الأكراد الذين صوتوا بأغلبية ساحقة لصالح الانفصال عن العراق بأنهم بعيدون عن حلم الاستقلال أكثر من أي وقت مضى. ويقرّ محللون بأن إيران هي الفائزة في نهاية الأمر، حيث يقول حسن شعبان، وهو معلق سياسي في بغداد وناشط في مجال حقوق الإنسان، “إيران أحسنت اللعب أكثر من الإدارة الأميركية وكانت القوة الأساسية التي أدت إلى الاتفاق لتسليم كركوك”.
ساهمت إيران، بالتخطيط والتأييد والتنسيق، في الهجوم الذي شنه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 16 أكتوبر 2017 لاستعادة السيطرة على المناطق التي تقودها السلطات الكردية بما في ذلك مدينة كركوك الغنية بالنفط، والذي انتهى إلى إعلان البارزاني عن تقديم استقالته.
وعلى خلفية التطورات الحاصلة أصبحت إيران في وضع يسمح باستغلال العواقب السياسية والسعي لانتقال مركز السلطة من أربيل عاصمة الإقليم، حيث هيمن البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى حلفائها الأكراد في مدينة السليمانية.
وقال ريناد منصور، وهو خبير في شؤون العراق بمؤسسة تشاتام هاوس البحثية، “كانت إيران دوما تسبق الاستفتاء بخطوة”. وأضاف أن الإيرانيين كانوا يعرفون أن البارزاني لن يؤجل الاستفتاء أبدا. وقال “كان الإيرانيون يخططون بينما كان الأميركيون يتخبطون”.
الاستفتاء وما أدى إليه من عقاب عسكري وسياسي عراقي يقضي على القوة النسبية التي تمتع بها الأكراد منذ سنوات
إزاء هذا الوضع دعا مايكل روبن الباحث في معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة، وهو أحد مراكز الأبحاث التي تعتبر مرجعا لصناع القرار في الولايات المتحدة وخصوصا على المستوى الأمني والاستراتيجي، إلى عدم اعتبار استعادة بغداد لسيطرتها على كركوك انتصارا لإيران على أميركا، بل يجب أن يكون هذا الوضع دافعا جديدا لتمضي واشنطن قدما في مساعي معاقبة طهران، مشيرا إلى أن “الدبلوماسية الإيرانية تميزت بغياب المصداقية والخداع خلال المفاوضات حول البرنامج النووي”.
وذهب معهد الدراسات الحربية الأميركي إلى اعتبار أن ما يجري في العراق وسوريا، بالتزامن مع تراجع داعش، يهدد مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة إن لم تدخل تعديلات على سياساتها. وأوضح أن الهدف المعلن باستعادة الموصل والرقة من قبضة داعش قد أُنجز تقريبا. ومع ذلك فإن إدارة الرئيس ترامب تسير ببطء في بلورة وتنفيذ سياسات أميركية من شأنها ضمان المصالح الحيوية الأميركية في مواجهة سرعة ورشاقة تحرك أعداء أميركا وخصومها والقوى المناوئة لها.
تدخل إيراني
القائد العسكري الإيراني الجنرال قاسم سليماني حليف منذ سنوات لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الخصم الرئيسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني. لكن الاستفتاء زاد سليماني القوي قربا من المشهد السياسي الكردي وأظهر كيف امتد نفوذ إيران إلى ما هو أبعد من الحكومة المركزية في بغداد.
وقال مسؤولون أكراد وعراقيون إن سليماني نصح الزعماء الأكراد في شمال العراق قبل الاستفتاء بسحب قواتهم من كركوك وإلا سيواجهون هجوما “شرسا” من القوات العراقية ومقاتلين مدعومين من إيران. ودفع التحذير مقاتلي البيشمركة الأكراد إلى الانسحاب من معظم المناطق وعمّق الشقاق بين قاعدة نفوذ البارزاني في أربيل وعشيرة الطالباني المنافسة في السليمانية والحليفة منذ وقت طويل لإيران.
وعبر سياسيون عراقيون عن قلقهم من تنامي نفوذ إيران لكنهم أثنوا على العبادي لأنه كبح جماح الطموحات الكردية. وقال الشيخ أحمد العبيدي، من مجلس عشائر كركوك، “نحن نشعر بالقلق لرؤية أذرع الأخطبوط تمتد بعمق في الشمال. وإذا تكرر نفس التدخل في المناطق الكردية فإن الأسوأ قادم وسيسود عدم الاستقرار. رأينا جميعا المشاكل التي حصلت في أجزاء أخرى من العراق ومن ضمنها المناطق ذات الأغلبية السنية والناتجة عن تدخل إيران”.
وفي كلمة للأكراد الذين ضعفت روحهم المعنوية بعد هزائم ميدانية كبيرة قال البارزاني يوم الأحد إنه سيتنحى وذلك بعد شهر واحد من الاستفتاء الذي دافع عنه في وجه معارضة إقليمية ودولية. واتهم البارزاني أعداءه “بالخيانة العظمى” لأنهم سلموا كركوك للقوات العراقية دون مقاومة فيما وجه خصومه نفس الاتهام له لأنه أجرى الاستفتاء.
مسعى إيراني لنقل مركز السلطة من أربيل إلى السليمانية "الحليفة"
خلافة غير واضحة
قضى الاستفتاء وما أدى إليه من عقاب عسكري وسياسي عراقي للأكراد بدعم من إيران وتركيا على القوة النسبية التي تمتع بها الأكراد منذ سنوات. وألقي باللوم على البارزاني سواء من جانب خصومه السياسيين وأبرزهم عشيرة الطالباني المتحالفة مع إيران أو من جانب حلفائه الغربيين الذين غضبوا بسبب إصراره على إجراء الاستفتاء رغم نصائحهم.
وترك البارزاني منصبه الأربعاء فاسحا المجال لابن شقيقه نيجيرفان البارزاني مهمة المصالحة مع الحكومة المركزية في بغداد ومع الدول المجاورة ومع أحزاب كردية منافسة. وقال مسؤولون أكراد إن نيجيرفان برزاني الذي تولى منصب رئيس الوزراء أصبح الآن الشخصية الرئيسية الممثلة للسلطة في إدارة الإقليم الكردي المتمتع بالحكم الذاتي في أعقاب تخلي عمه عن الرئاسة.
وكان من المرجح قبل الاستفتاء أن يصبح مسرور ابن البارزاني خليفته لكن دعم مسرور للاستفتاء أضره. وبدلا من ذلك تصدر نيجيرفان المشهد.
وحصل نيجيرفان على بعض سلطات البارزاني الرئاسية بعد توزيعها وحافظ على علاقاته مع المعارضة الكردية مما جعله مرشحا يحظى بقبول أكبر لرأب الصدوع في المنطقة. كما أن نيجيرفان على علاقة وثيقة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ولم يتضح من سيكون الرئيس المقبل لحكومة إقليم كردستان العراق. وإلى جانب التوصل إلى تسوية فيما بين الأكراد يجب أن يوضع نفوذ بغداد وإيران في الاعتبار.
ويقول مسؤولون أكراد كبار من الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني إن الخيار الأفضل بالنسبة لهم هو تقديم جبهة موحدة في المفاوضات مع بغداد لكن هذا الأمر يبدو الآن ضربا من المستحيل.
وتسيطر القوات العراقية التي تضم فصائل شيعية مدعومة من إيران على المعابر الحدودية في الشمال وطرق التجارة المهمة بالنسبة للأكراد. ووجه استسلام كركوك عسكريا ضربة قاصمة للأكراد على المستوى المعنوي والمالي إذ انخفضت عائدات المنطقة من تصدير النفط إلى النصف بين ليلة وضحاها.
وتعاني عشيرة الطالباني من أزمة خلافة خاصة بها بعد وفاة الرئيس السابق جلال الطالباني. وقال منصور، الباحث في معهد تشاتهام هاوس، “رأت طهران الطالباني حليفها الكردي يتفكك”. وأضاف أن إيران بحاجة إلى خليفة واضح لضمان استمرار نفوذها.
ويتنافس أبناء وأقارب آخرون على القيادة في أعقاب الاستفتاء. لكن أنصار حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عبروا عن قدر كبير من الإحباط إزاء الطريقة التي أدار بها زعماؤهم أزمة كركوك. وقال قيادي في البيشمركة متحالف مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني طالبا عدم ذكر اسمه خشية تعرضه للعقاب “خاننا زعماؤنا في كركوك ومنعونا من قتال الفصائل (الشيعية العراقية). باعونا لإيران من أجل مصلحتهم”.
راية الجلبي