حفرت المرويات حول "معركة أُحُد" عميقاً في التراث والذاكرة الإسلاميين. فهذه الغزوة، المحدّدة بحسب أدب المغازي والسير النبوية، في السابع من شوال العام الثالث للهجرة، غالباً ما تستحضر بالتناظر مع غزوة بدر التي سبقتها بأقل من عام.
الهزيمة النموذج
فبدرُ "انتصار نموذجي"، إطار مفترض لكل انتصار لاحق. وأُحُد "هزيمة نموذجية"، تختصر مسبقاً كل هزيمة.
في بدر، يتكامل الانضباط والمراس القتاليان تحت راية النبي مع الإمداد السماوي، المؤيد بالنص (تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألف من الملائكة مُردفين، الأنفال، 9).
معركة-أُحُد
وفي أُحُد، يعصى فريق الرماة من المسلمين توجيهات الرسول العسكرية، ويندفعون إلى نهب معسكر العدو قبل حسم المعركة وإيذان محمد لهم بذلك، كاشفين ظهور المسلمين لفرسان المشركين بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة ابن أبي جهل (أبو الحكم).
تنقلب أرجحيتهم إلى هزيمة، ويهيمون في الجبل، وتستبد بهم شائعة موت نبيّهم (شائعة تعزوها مصادر التراث إلى حيلة من الشيطان نفسه) الذي جُرح في المعركة، فيتفرّقون عنه بدل حمايته.
هزيمة نكراء أو مبالغة تراثية؟
لئن اقتصر التأليف عربياً حول معركة أُحُد على استعادة وتشذيب الرواية التراثية، فقد انشغل المستشرقون بتحديد مدى الهزيمة فيها، إذ طغت نزعة تقول بأنّ المصادر الإسلامية قلّلت من حدّتها، إلى أن انقلب الرأي مع المستشرق البريطاني مونتغمري واط في عمله "محمد في المدينة" (1956).
اعتبر واط أن ما قامت به المصادر التراثية هو على العكس تماماً، المبالغة في تصوير الهزيمة، وأنّ "أُحُد إن لم تكن هزيمة ماحقة للمسلمين، فإنّها كانت أقلّ من انتصار للمكيين".
وعلى منواله، يقلّل المؤرخ التونسي هشام جعيط في جزئه الثالث من سيرته عن النبي من كونها هزيمة نكراء، ويصفها بأنها كانت "هزيمة متوقعة ربما لم يكن في الإمكان تلافيها"، في حين يصف معركة بدر بأنّها "لم تكن سوى ضربة حظ بالنسبة إلى المسلمين".
ويبدو جعيط غير مقتنع بأنّ العصيان داخل معسكر المسلمين هو للأسباب المشار إليها في المصادر التراثية (مفارقة الرماة أماكنهم، سلب متاع العدو قبل النصر، الهلع والوقوع فريسة شائعة مقتل النبي، التفرّق المشين وترك النبي الجريح وشأنه)، بل يرى أنّ العصيان "غير مفصّل" في النص القرآني (الذي يفرد مع ذلك خمسين آية عن غزوة أحد)، ولا يختزل فقط في "عصيان الرماة" على ما ترويه السيرة التراثية (ابن اسحاق وابن هشام والواقدي والطبري).
يعتبر جعيط أن الأنصار تلافوا بالفعل مذبحة كاملة من خلال لجوئهم إلى الجبل، ويقول: "لقد كان الهلع خلاصاً لهم، حتى وإن جرى اللحاق ببعضهم وذبحهم".
اختلاف قريش في مرافقة النساء للرجال في الحرب
سواء عند ابن اسحاق في "السيرة" أو عند الواقدي في "المغازي" تستهل أخبار أُحُد بمناظرة بين مجادلتين، واحدة في معشر المشركين، والثانية في معشر المسلمين الأوائل.
يقول الواقدي عن المجادلة الأولى، إنّه "اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم". ما الظعن؟ جمع ظعينة، أي المرأة هنا، المرأة في الهودج.
فريق يرى مرافقة النساء لرجالهن الذاهبين للأخذ بالثأر من قتلاهم في بدر، لأن النساء "أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه"، فتواجد النساء على أرض المعركة يحول دون فرار الرجال، كي لا تقعن سبايا.
أما الفريق الآخر، فيخشى من الأساس أن تنتهك حرمة القرشيات من قِبل الأعداء.
اللافت في الرواية التراثية أنّ هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان، التي فقدت والدها وعمها وابنها وأخاها في بدر، هي التي تحسم الخلاف، فتطالب بروحية هجومية ولاذعة بأن "نخرج فنشهد القتال".
لكن الخائفين على نسائهم عادوا، أثناء المسير، فاقترحوا نبش قبر والدة النبي، آمنة بنت وهب، في وادي الأبواء، "فإن يُصب من نسائكم أحداً قلتم هذه رمّة أمّك"، ورفضت مرجعيات القبيلة ذلك، اجتناباً لنبش القبائل البدوية الحليفة لمحمد قبور موتاهم.
أقوال جاهزة
غردغزوة بدر "انتصار نموذجي"، إطار مفترض لكل انتصار لاحق. وغزوة أُحُد "هزيمة نموذجية" تختصر مسبقاً كل هزيمة
شارك
غردهل قلّلت المصادر التراثية من حدّة الهزيمة في معركة أُحُد، أم على العكس، بالغت في تصوير الهزيمة؟
اختلاف المسلمين في القتال داخل أو خارج المدينة
أمّا الخلاف في المدينة التي كان وصلها خبر تقدّم المشركين باتجاهها فدار بين من يرى الخروج لمقاتلة العدو خارج المدينة، أو التحصّن في داخل البيوت العالية والأبراج الصغيرة العديدة، أي ما يشار إليه بـ"الصياصي والآطام".
ينشب الخلاف هنا على الرغم من أنّ الرسول أخبر بما رآه في المنام: "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته، ورأيت بقراً تذبح". بل فسّر محمد منامه بنفسه: "أما الدروع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبح فقتلى في أصحابي" (الواقدي).
في بداية هذا الخلاف حول الخروج إلى العدو خارج المدينة، أو ملازمة البيوت المحصنة والأبراج داخلها وتحويلها إلى "حرب شوارع"، يؤيد عبد الله بن أبي بن سلول، من سادة الخزرج، والذي تعامله الروايات التراثية على أنّه زعيم المنافقين، ما رآه الرسول، لأن "مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا، وما دخل علينا قط إلا أصبناه".
المفارقة في رواية الواقدي أنّه، على الرغم من المنام الذي حصل للنبي وأخبر عنه وفسّره، وانحياز الأكابر من المهاجرين والأنصار لموقف النبي، فإنّ "جيل الشباب" كان ملحاحاً لأجل الخروج إلى القتال خارج المدينة، كما أنّ عم الرسول، حمزة، الذي يزيده بعامين، كان من هذا الرأي.
والرسول "لم ير من إلحاحهم كاره" رغم المنام الذي جاءه وأنبأ عنه، لا سيّما أنّ هؤلاء الشباب كانوا متحمّسين "يتسامون كأنهم الفحول". لم يمنعه هذا من البوح لهم في نفس الوقت بـ"أني أخاف عليكم الهزيمة". مع ذلك، بحسب ابن اسحاق، خافوا أن يكونوا قد "استكرهوا" محمد على فعل ما لا يريده، فبدّد الهاجس قائلاً: "ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل".
عبد الله بن أبي: منافق أم "معارض"؟
هذا التبدّل في موقف النبي أثار سخط ابن أبي، الموصوف تراثياً بأنّه "رأس النفاق". فاغتاظ لأن محمد "أطاع هؤلاء الغلمان الذين معه"، "أيعصيني ويطيع الغلمان"، "عصاني وأطاع من لا رأي له" (الواقدي).
وربما كان رفض محمد أن يشارك يهود من حلفاء ابن أبي في حربه ضد قريش عاملاً مؤججاً أكثر للخلاف. ومع أنّه لم تكن قد وجهت التهم لبني نضير وبني قريظة بمناقضة العهود مع "المؤمنين"، فإنّ الواقدي ينقل حديثاً منسوباً للنبي بصددهم، بأنه "لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك" (هذا في الوقت الذي يشدّد فيه هشام جعيط بأنّ قسماً من الذين حاربوا في بدر وأُحُد من أهل يثرب، من بني أوس مناة، وكانوا لا يزالون على الشرك).
شيء آخر غير مفهوم في أدب "السير والمغازي". فهي تتحدث عن مضي عبد الله بن أبي ورجاله مع بقية المسلمين، ثم إقفاله راجعاً إلى المدينة عند منتصف الطريق.
بالنسبة إلى مونتغمري واط، من الصعب تصديق ذلك، فلو كان كذلك لما خرج من الأساس. يفترض واط أن يكون ابن أبي قد ذهب لحماية المدينة من اعتداء قرشي محتمل. أما هشام جعيط في "مسيرة محمد في المدينة" (2015)، فيرفض الخبر عن إقفال ابن أبي راجعاً إلى المدينة، ويعتبره "بلا معنى".
وعن عبد الله بن أبي بن سلول، يقول ابن اسحاق إنه كان "سيّد أهل" يثرب قبل الهجرة، "لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان"، لكنه جارى قومه في البيعة لمحمد، دون اقتناع على ما يظهر، ومع ذلك، وخصوصاً في أُحُد، رفض ابن أبي "المنافق"، أن يضع يده في يد "أبو عامر الفاسق" الأوسيّ، الذي كان على رأس خمسين رجلاً نزحوا عن يثرب إلى مكة عند هجرة محمد، وراهن أن باستطاعته تقليب أهله على محمد في معركة أُحُد.
بالنتيجة، نحن حيال هزيمة استفاد منها محمد داخل مجتمع يثرب، في حين أن ابن أبي الذي عوّل على استثمار الهزيمة لمصلحته، بالشماتة والتحريض - كون أغلب الذين قتلوا في أحد كانوا من الأنصار اليثاربة وليس من المهاجرين - قد عُزل أكثر فأكثر، وتراجع من حالة اعتراض سياسي إلى بثّ الشائعات للنيل من زوجات النبي.
مع ذلك، تقدّم لنا المرويات ابن أبي بأنّه كان يحتمي بالأواصر القبلية، من غضب النبي، حتى في مجتمع الصحابة هذا.
ومن الباحثين العرب المعاصرين من يميل لإعادة الاعتبار لابن أبي، كرائد "المعارضة السياسية" (هشام جعيط) أو كـ"علماني" يفصل بين التزامه الديني وموقفه السياسي (رضا بن علي كرعاني في كتابه "أعداء محمد زمن النبوة").
حمزة والعباس... ووحشي بن حرب
من المفهوم أن تعتني كتب السيرة والمغازي التي وضعت في المرحلة العباسية بعمّ الرسول، العباس بن عبد المطلب، جدّ خلفاء بني العباس، وتبحث له عن دور "جهادي" مع أنّ الراجح أنّه لم يبايع محمداً إلا في وقت متأخر، عشية فتح مكة.
يناسب المصادر التراثية الموضوعة في ظلال بني العباس أن تظهر جدّهم ككاتم لإسلامه لسنوات عديدة في داخل قريش، و"صاحب مخابرات محمد في مكة" كما وصفه معروف الرصافي في "كتاب الشخصية المحمدية". والعباس، في الرواية التراثية (الواقدي)، هو الذي يمدّ محمد بخبر سير قريش لمقاتلته في غزوة أحد.
في مقابل نموذج العباس، يحضر نموذج حمزة. العمّ الأصغر للنبي، الذي أسلم باكراً وعلناً، ويقدّم كذلك كأخ للنبي بالرضاعة. الشهيد الأبرز في معركة أحد.
مفارقة المصادر التراثية هنا أنّ الرجل نفسه الذي أردى حمزة، أي المولى الحبشي "وحشي بن حرب"، وبتحفيز من هند بنت عتبة، جدّة الأمويين (الذين لم يفوّت العباسيّون والطالبيّون الفرصة لأبلستها، والإشارة إلى إغوائها بوحشي الحبشيّ هذا)، هو نفسه وحشي الحبشي الذي يعفو عنه الرسول بعد ذلك، ويصير من الصحابة، ويستخدم الحربة نفسها التي قتل بها حمزة، لقتل "مسيلمة الكذاب" في أيام حرب الردّة.
يتكثّف التناظر في قول لوحشي: "قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام".
هند بنت عتبة... وهند الأخرى
من بين جميع شخصيات بدر، استأثرت هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، بحصة الأسد من الصورة السلبية الإسلامية، المصنوعة في القرن العباسيّ الأوّل (في المقابل بقي زوجها نموذجاً للحكمة الجاهلية والحرص على الأعراف القبلية في هذه المصادر). فنراها وهي تتقدم النساء حاملات الدفوف، وهي ترجّز "نحن بنات طارق نمشي على النمارق، الدرّ في المخانق، والمسك في المفارق، إن تقبلوا نعانق، أو تدبروا نفارق، فراق غير وامق" (وقد أعطيت لهذه الأرجوزة تفسيرات كثيرة، تتفاوت بين تعريف بنات طارق بالمكتهنات، وبين التوقف عند إيحاءات الإغواء والإغراء للمقاتلين، مع أنّ الراجح أنّ هذه الأرجوزة هي فولكلور شائع في حروب الجاهلية لم تبتكره هند).
قزمان والأصيرم والمخيريق، شخصيات ملحمية من معركة أُحُد تستحق المزيد من البحث حولها
ثم نراها (وهي التي يصفها ابن الكلبي بأنها "تحب السودان") وهي تحثّ العبد الحبشي على قتل حمزة. ثم نراها تجدع الآذان والأنوف وتتخذ من ذلك قلائد، وتبقر كبد حمزة، وتلوكها ولا تستسيغها فتلفظها، وفي التراث رواية عن النبي أنه "لو أدخل بطنها (شيء من لحم حمزة) لم تمسها (لهند) النار".
واللافت أنّ المصادر النصّية تناظر بين هندين في أٌحُد. فالصحابية هند بنت أثاثة هي التي تفحم هند بنت عتبة شعراً في أُحُد، بما مطلعه "يا بنت وقاع عظيم الكفر".
شخصيات تستحق المزيد من البحث حولها: قزمان والأصيرم والمخيريق
يربط أدب السيرة والمغازي حملة النبي على يهود بني نضير باتهامه لهم بالتواطؤ مع المشركين في معركة أُحُد (ليس هناك أي تدوين يهودي عمّا جرى ليهود المدينة ثم خيبر).
بالتوازي، تخبرنا هذه المصادر عن "مخيريق"، من أحبار اليهود، كثير العلم والمال والنخل، يقاتل مع المسلمين في أُحُد، ويغضب على جماعته من اليهود بأنّ "لا سبت لكم" (بما أنّ المعركة وقعت نهار سبت). يقتل في المعركة بعد أن أوصى بأمواله لمحمد، وثمة من يعتبر هذه الأموال بالذات بداية مؤسسة الأوقاف في الإسلام.
أفردت المنمنات العثمانية مكاناً للمخيريق وهو يجادل قومه، لم تحظ شخصيات أخرى بهذا الاهتمام. ومنها ما يجسّد تماماً مبدأ التناظر: الأصيرم وقزمان.
الأصيرم بن الأشهل، هو "صحابي لم يسجد لله قط سجدة ودخل الجنة". أسلم مباشرة قبل المعركة وقتل فيها. أما قزمان الظفري الذي لم يسلم، فسخرت منه النساء لأنه لم يخرج للقتال، فاغتاظ وذهب، وكان بين الأكثر شجاعة، ورمى "نبلاً كأنها الرماح" (الواقدي) ثم أعمل سيفه بالمشركين. ولما أكل الهلع المسلمين ظل هو في مكانه يقاتل، ويصيح "الموت أحسن من الفرار" (تتفاوت المصادر هنا في تفسير المقصود من قتله لنفسه). مع ذلك، احتسب النبي "قزمان من أهل النار"، وأنّ "الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". فقزمان ظلّ حتى النهاية مصرّاً بأنّه يقاتل عن حمية، وليس عن إيمان. ولعلّ قزمان هو الشخصية الأكثر ملحمية في المدونة التراثية حول معركة أحد.