عندما نشبت مواجهاتٌ عسكرية شماليّ العراق بعد استفتاء استقلال كردستان أُثيرَت تساؤلاتٌ بشأن القيادة الكردية في أربيل وصلت لإعلان رئيس الإقليم مسعود البارزاني الاستقلال. لكن على بعد نحو 400 كيلومتر إلى الجنوب، في حيٍ للطبقة العاملة في ضواحي بغداد، أثار التصويت على الاستقلال بهدوء أزمة هوية، وفقاً لما نقله "هافنغتون بوست" عن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.
"عكد الأكراد"، أو حي الأكراد، هو حي معزول يقع وسط بغداد تعيش فيه منذ أجيال 200 أسرة كردية في أزقة متعرجة ومنازل متلاصقة، بعضهم يدَّعي أنَّ أصوله هناك قديمة قدم العاصمة ذاتها.
هوية مزدوجة
هنا، يقول الأكراد إنّهم مُجبَرون، لأول مرة منذ عقود، على الاعتراف بهويتهم المزدوجة. معظمهم هنا يتحدث العربية بلكنة العاصمة المميزة، ولم يسبق لهم الذهاب إلى الإقليم الكردي شبه المستقل في الشمال. مع ذلك، فإنَّ تنامي نزعة القومية العربية العراقية قد جعل انتماءهم العرقي داخل أسوار ملاذهم التقليدي محطاً للأنظار، الأمر الذي يشعرهم بعدم الارتياح.
وتعقيباً على ذلك، قال صباح مكي (66 عاماً)، وهو معلم متقاعد وُلد وترعرع داخل الحي: "كلنا هنا نرتعد خوفاً مما قد يحدث لنا بسبب الاستفتاء"، مضيفاً أنَّه قلقٌ من أنَّ العرب، الذين يمثلون الغالبية العظمى لسكان بغداد، سوف ينظرون إلى الأكراد كفريسةٍ سهلة في حال تفاقم المواجهة السياسية أو العسكرية.
وأضاف مكي ومعه آخرون أنَّ مخاوفهم تتباين ما بين المخاوف العادية والوجودية؛ فهناك أكراد عديدون يعملون داخل قطاع الخدمات العامة الواسع في العراق أو يعيشون على المعاشات البلدية، وبالتالي ازداد قلقهم من تعرضهم للتفرقة العنصرية الآن أكثر من ذي قبل. وهم يخشون التعرض في أسوأ الأحوال للطرد من منازلهم، أو الاعتداء من جانب أيٍ من الميليشيات المسلحة العديدة التي تسيطر بصورةٍ غير رسمية على بعض مناطق العاصمة.
أكراد وعراقيون
يقول مكي: "معظم الأكراد في المنطقة عاشوا حياتهم كلها في بغداد؛ حياتنا ودراستنا وعملنا هنا. نحن نعتبر أنفسنا أكراداً عراقيين، ولسنا أكراداً فقط".
أما محمد عبد الله (54 عاماً)، وهو رجل أعمال، فقد راقب بتوجس تصاعد حدة تداعيات الاستفتاء من مجرد مشادة سياسية كلامية إلى غارة عسكرية فعلية شنتها القوات العراقية على مناطق واقعة تحت سيطرة الأكراد، مثل مدينة كركوك.
وبعد أن شعر محمد أنَّ هذه المسألة لن تنتهي بسلام، أعد العُدة للانتقال مع عائلته إلى الأردن في حال تمكن الغضب العراقي إزاء الاستفتاء من بلوغ الحي الذي يقيم فيه.
وقال محمد: "الأكراد هنا في بغداد أقلية. ليس لدينا من يحمينا. نحن من سوف يتضرر من جراء موجة الغضب حول الاستفتاء المنتشرة حالياً".
فخورون
"حي عكد الأكراد" ذاته لا يحاول إخفاء هويته الكردية؛ فهناك تنتشر السلع في منطقة التسوق الرئيسية على الأرصفة وتفيض في الشوارع، وتكثر عربات بيع الأطعمة التي تروّج اللحوم المشوية التي يشتهر بها الأكراد.
حتى أنَّ العديد من مظلات مداخل المطاعم والمقاهي تكتب أسماء أصحابها بفخر مصحوبة باللقب الشرفي "كاكا" (الذي يعني "الأخ" باللغة الكردية).
وداخل الحي ذاته، تُزيِّن الجدران صورٌ قديمة لشعراء أكراد وعرب. مثلاً، تعلو أحد الجدران صورةٌ باهتة باللونين الأبيض والأسود للرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم، تجاورها صورة لجلال طالباني، السياسي الكردي الراحل الذي تولى رئاسة العراق بعد تعرض البلاد للغزو من الولايات المتحدة الأميركية عام 2003.
ويظهر طالباني في هذه الصورة في هيئة قائد ثوري شاب يرتدي الزي التقليدي للبشمركة، المقاتلون الأكراد الذين شنوا عدة انتفاضات ضد عددٍ من القادة العراقيين المتعاقبين.
وأثناء لعب الدومينو واحتساء الشاي على المقاهي، تجادل الأكراد وتناقشوا فيما بينهم الحكمة وراء الاستفتاء، مجبرين أنفسهم على الدخول في نقاشاتٍ صعبة عما تمثله لهم الهوية الكردية والعراقية.
وقال سمان عليّ (50 عاماً)، ويعمل بقالاً: "نحن نعيش أياماً عصيبة ما بين حلم الاستقلال في دولةٍ خاصة بنا كأكراد والمستقبل المجهول الذي ينتظرنا كأكراد يعيشون في بغداد. الأمر غاية في التعقيد، لأنَّ الشعب الكردي يستحق أن تكون له دولة مستقلة خاصة به".
وألقى البعض، لاسيما الشباب، باللوم الشديد على عاتق قيادة الإقليم الكردي لوضعهم في موقفٍ محفوف بالمخاطر في بغداد، المدينة الوحيدة التي يعتبرونها موطناً لهم.
اللغة العربية
من جانبه، قال طه عباس (23 عاماً)، وهو طالب جامعي، إنَّ لغته الأم هي اللغة العربية، وأنَّه يتعرض للسخرية من الأكراد في أربيل بسبب لكنته عندما يتحدث باللغة الكردية، في حين تذكر بطاقة هويته في بغداد أنَّه كردي الجنسية، مما يجعل منه "مواطناً من الدرجة الثانية" على حد تعبيره.
وأضاف: "أنا متخبط بين الهويتين، ولا أدري إلى أيهما أنتمي. ومع كل الأحداث الجارية، أعلم أنَّني سرعان ما سأجد نفسي مضطراً للاختيار بينهما".
من جانبه، حاول رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي طمأنة الأكراد في العراق بأنَّهم ليسوا العدو، حتى مع دخول القوات العراقية المدعومة بالميليشيات الشيعية إلى مناطق تمركز أكبر عدد من السكان الأكراد في الشمال.
وقال العبادي في لقاءٍ له مع صحيفة "واشنطن بوست" الأسبوع الماضي: "أنا فخور للغاية بأنَّ المجتمع العراقي استطاع الحفاظ على تنوعه وتنوع سكانه؛ هنا يكمن موطن قوتنا! هنا يكمن تراثنا! هنا تكمن هويتنا! هذا هو ما يجب علينا أن نحميه ونحافظ عليه! الاختلاف ليس عيباً في بلادنا؛ العيب الحقيقي هو أن نحاول قمع الجانب الآخر الذي يمثل الأقلية، وأن نجبره على أن يسلك سلوك الأغلبية؛ هذا ليس تصرفاً سليماً".
الحل الوحيد
بيد أنَّ طه عباس ليس مقتنعاً بأنَّ كلمات رئيس الوزراء العراقي الاسترضائية سوف تتخلل المجتمع العراقي المنقسم بشدة. إذ قال: "أفضل حل هو الهجرة إلى بلاد أخرى، بعيداً عن الصراعات، والبدء من جديد".
في حين أعرب فايق حمَّاد (70 عاماً)، الذي يكسب قوت يومه من خلال نقل متاع الناس بعربته الخشبية، عن تفاؤله تجاه الوضع الراهن.
استرجع حمَّاد بذاكرته أسوأ أيام شهدتها الأزمة الحكومة العراقية والأكراد، من ضمنها الانتفاضة الدموية ضد الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والتي قُمِعَت بالغاز السام في عام 1988، وقُتل فيها ما لا يقل عن 5 آلاف كردي.
وقال حمَّاد، الذي كان يرتدي الزي الكردي التقليدي المكون من سروالٍ فضفاض وحزام عريض أعلى الخصر: "ما يحدث الآن مجرد زوبعة وستزول. لطالما كانت كردستان وبغداد شقيقتين، وستظلان دائماً كذلك".