كشفت حدّة الأصوات المنتقدة لحزب الله والمتلفزة الطالعة من قلب الضاحية الجنوبية في بيروت، عن مشهد جديد غير مسبوق داخل البيئة الحاضنة لحزب الله، الانتقادات ربما ليست جديدة في هذه البيئة التي تعاني من أثقال الأزمة الاقتصادية التي تصيب كل اللبنانيين، ومن أعباء قتال حزب الله في سوريا التي أصابت عشرات الآلاف من العائلات، بخسائر إمّا من الضحايا وإمّا الجرحى الذين سقطوا في تلك البلاد، أو نتيجة التداعيات السياسية والاجتماعية لهذه الحرب التي لم تحمل إليهم على رغم إعلان حزب الله انتصاراته في هذا البلد، إلاّ المزيد من المخاوف والمخاطر من كل ما حولهم، سواء من إسرائيل أو أميركا أو من البيئة العدوّة للنظام السوري على المستوى السوري والعربي عموما.
الضاحية الجنوبية تشكّل القاعدة الصلبة لحزب الله والتي يقيم فيها أكثر من سبعمئة ألف مواطن، غالبيتهم العظمى من الشيعة، وهي مركز قيادة حزب الله ومقر مؤسساته الأمنية والعسكرية، ومنطلق عملياته وحصنه الحصين منذ نشأ الحزب قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي كما هو معلوم أيضاً المكان الذي تمّ على أطرافه قتل ما يفوق المئتين وخمسين أميركيا من المارينز، بتفجير انتحاري عام 1983، أحيت واشنطن ذكراهم قبل أيام وجددت اتهام حزب الله بالوقوف ورائها وبسعيها إلى محاسبته على تنفيذه هذه العملية. وهي تخضع لحسابات أمنية خاصة تجعل حزب الله صاحب الكلمة العليا فيها على كل المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية، فيما يبدو حضور مؤسسات الدولة في المناطق ذات الغالبية الشيعية يبقى مشروطا بالمرور والإشراف من قبل حزب الله الذي رغم سطوته على مفاصل السلطة، لم يتخلّ عن نظامه الأمني والاجتماعي الخاص في ما يسميه بيئة المقاومة او البيئة الحاضنة، بل نجح نسبيا في تطويع المؤسسات الأمنية والعسكرية الرسمية والتي اخترق معظمها من باب شراكته في الحكومة والمحاصصة في الدولة، لشروطه بما يتيح له في كثير من الأحيان استخدامها لما يراه مناسبا أو ضروريا في بيئته ولا سيما في الضاحية الجنوبية. وهو في ذلك كان يوجّه رسالة يومية لجمهوره أنأ مرجعيتكم وليست الدولة وأنا الوسيط بينكم وبين هذه الدولة عند الضرورة والأهم من ذلك ترسيخ فكرة في وعي هذا الجمهور أن الدولة في لبنان هي مصدر الشرور وهي مصدر الخير والأمن والآمان.
هذا غيض من فيض فنون السيطرة والتحكم التي غالبا ما تكون أسيرة النظرة الأمنية لحزب الله، بما يفرض نمطا من السيطرة والتأثير في المجتمع تغلب عليه هذه النظرة التي تعكس طبيعة حزب الله وهويته الأمنية، لذا فهذه النظرة هي التي تجعل حزب الله حريصا على صورة الولاء المطلق في بيئته، فهو لا يتهاون حيال أيّ مظهر يوحي بإخلال في الولاء، فإن تصدر مواقف معلنة وعبر شاشات التلفزة، منتقدة ومعترضة من داخل بيئته على سياسته أو بعض مواقفه ولو من بضعة أفراد، يدرج في إطار الحدث الاستثنائي ليس ممن هم خارج حزب الله بل حتى من قبله هو، وهذا ما حصل فعلا قبل أيام في الضاحية الجنوبية وفي أكثر مناطقها فقرا أي منطقة حي السلم.
ماذا حصل في هذه المنطقة؟ ما جرى هو قيام اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية بالتنسيق مع بلدية الشويفات، بتنفيذ قرار صادر من وزارة الداخلية وبإشراف محافظ جبل لبنان، بإزالة مخالفات بناء على أملاك عامة، اعترض أصحاب المخالفات وبدأوا يوجّهون انتقاداتهم ووصل بعضهم إلى حدّ توجيه شتيمة لأمين عام حزب الله حسن نصرالله، من حيث الشكل ليس من أيّ علاقة مباشرة لحزب الله في هذه القضية كل من ذكرنا أنفاً هي جهات رسمية وبلدية، ولكن لماذا كل الغضب من المتضررين وعائلاتهم كان في اتجاه حزب الله؟ ببساطة شديدة ولا يحتاج الأمر إلى تفسير في لبنان ولا في قلب الضاحية، لأنّ المواطنين هناك ومنذ عقود يعلمون أنّ أيّ خطوة رسمية باتجاه الضاحية أمنية أو غير أمنية لا يمكن أن يتحقق أو ينفذ إن لم يكن يقف خلفه حزب الله إمّا راضياً به وإمّا مشجعا عليه، لذا كانت الاعتراضات منصبة على حزب الله لا وزارة الداخلية صاحبة القرار شكلا ولا محافظ جبل لبنان ولا أيّ جهة رسمية أخرى عسكرية أو أمنية كانت متواجدة على الأرض وهي من أزال المخالفات ومنعت الأهالي من حمايتها.
هذا يشكل مدخلا لفهم ما جرى وأبعاده، وما يمكن أن يحمله في المستقبل لا سيما لجهة العلاقة بين حزب الله وبيئته الحاضنة، إذ لوحظ على رغم أنّ المعترضين على إزالة المخالفات كانوا بالعشرات، بعد خروج أصواتهم العفوية والقاسية على حزب الله في الفضاء التلفزيوني والالكتروني، عمد حزب الله إلى نشر المئات من عناصره بالزي العسكري في أكثر من نقطة جغرافية في الضاحية وبعد أقل من ساعة من انتشار الشتيمة ضد نصرالله، في خطوة لا يمكن إدراجها إلا في سياق استعراض القوة، فشتيمة نصرالله وانتقادات حزب الله بطريقة لم تصدر حتى من أشدّ خصوم حزب الله في لبنان، كانت كفيلة بأن يستنفر حزب الله مقاتليه في الضاحية في نوع من أنواع الاحتجاج، المقنع بإظهار القوة والقدرة، وبتوجيه رسالة لكل من يحاول استثمار ما جرى بأن حزب الله يقف بالمرصاد، ولعل مسلسل الاعتذارات من قبل المنتقدين والشتامين في اليوم التالي كان كفيلاً ليؤكد المشهد الأول ولا ينفيه، أي أن ما قاله المواطنون المعتدون على الأملاك العامة في حي السلم، عبر إظهار حزب الله أنه المسؤول عما جرى معهم والمسؤول عن غياب الدولة من عقود عن هذه المنطقة وحتى مخالفاتهم كان حزب الله وسياسته وراءها، لا بل قالوا ما كان لا يتوقعه أحد عن الكلفة التي دفعوها من جرحى وضحايا في الحرب السورية، وعن رفضهم لهذه الحرب.
الاعتذارات كانت مفضوحة، الاتهام كان عفويا أما الاعتذارات فكانت أقرب إلى المصطنعة أو المزوّرة، لكن رغم ذلك كان حزب الله على ما يبدو حريصا رغم المشهد الكاريكاتوري للاعتذارات أن يقول إنهم اعتذروا وعلى شاشات التلفزة في رسالة لبيئته قبل الآخرين إنه لن يتسامح مع مثل هذا الخروج عن الولاء، فما يهمّه من الناس هو ليس الحب بقدر ما يهمه الانضباط والخوف، فيما وصل الأمر بنائب الضاحية علي عمار القيادي في حزب الله وتتويجاً للاعتذارات لحزب الله أن أعاد التذكير بتقبيل حذاء نصرالله قبل عشر سنوات ووصف هذه اللحظة أي تقبيله حذاء نصرالله بأنها كانت عملية “انتقال من عالم الناسوت إلى عالم الملكوت” وهو وصف يعكس مدى الاهتزاز الذي طال هذا القيادي في حزب الله الذي سببته شتيمة نصرالله من قبل أحد أبناء بيئته الحاضنة فأخرجته عن الصواب إلى ما يشبه الجنون واحتقار الذات الإنسانية بل حتى الذات الإلهية التي يمكن دخول عالمها من تقبيل حذاء أيّا كان صاحب هذا الحذاء.
يمكن القول إن تاريخا سيؤرخ له لاحقا من خلال أحداث حي السلم الأخيرة في مسيرة حزب الله ولا سيما في علاقته مع بيئته الحاضنة، ما قبل أحداث حي السلم غير ما بعدها، فخروج أصوات الاعتراض على سياسة حزب الله وسلوكه من داخل بيئته مرشح للازدياد، فالحرب السورية وانتصاراتها لم تجعلهم في حال أفضل بل زادت أوضاعهم سوءا، وتحكمه بالسلطة اللبنانية ومفاصلها، لم يحمل لهم أيّ تغيير إيجابي في حياتهم، بل فاقم الضرائب عليهم وزاد الفساد واستشرى، حزب الله الذي كان يحذرهم من الدولة الظالمة والمستقوية على الضعفاء أمثالهم، ها هو اليوم يساعدها على الاقتصاص بالمخالفين الضعفاء منهم فيما يتحاشى التعرّض لكبار المتعدين على الأملاك العامة من مؤيديه أو معارضيه.
يبقى أن نشير إلى أنّ حزب الله الذي يرى إلى تداعي مشهد وجود تنظيم داعش في المنطقة وسوريا على وجه التحديد، بات يدرك كما المحيطين به أنّ العقوبات الأميركية وقوانينها الجديدة ضد حزب الله. فضلاً عن مواقف إدارة الرئيس الأميركي التي زادت من وتيرة تهديدها لحزب الله هي إيذان ببدء فصل جديد غير مسبوق في عملية الضغط على حزب الله وهذا بحد ذاته أيضا سيفرض على حزب الله إمّا الذهاب إلى الجنون وعلى طريقة النائب عمار بفقدان التوازن، وإما بالمباشرة بإعادة تغيير في بنيته بما يتلاءم مع شروط الدولة وقواعدها عبر إلغاء دويلته، ولكن هذا أو ذاك أمران ينذران بانهياره وكلاهما قرار أصعب من الآخر فيما واقع الحال يضغط عليه لفعل شيء أو البقاء من دون تغيير مع ترقب مفاجآت من داخل بيئته أشد وأدهى مما جرى ضده في حي السلم في قلب الضاحية الجنوبية ومن داخل بيئته الحاضنة والتي كانت دافئة.