قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بمناسبة إطلاق مشروع المدينة الاستثمارية بتبوك، إنّ السعودية تعود إلى الإسلام المعتدل الوسطي المنفتح على العالم.
لقد انشغلنا جميعاً، وعلى الأقل منذ عام 2001، بمكافحة الإرهاب، وجرى تصنيف المسلمين إلى صنفين: المعتدلون والمتطرفون. وقيل لنا إن المتطرفين اختطفوا الإسلام، وإن على المعتدلين استعادته. والمعتدلون بدورهم فريقان: الفريق المشارك مباشرةً في مكافحة التطرف والإرهاب من العسكريين والسياسيين والأمنيين، والفريق الآخر المشارك بشكل غير مباشر ويضم العلماء والمؤسسات الدينية والمفكرين والإعلاميين.
وبالطبع فإن المتطرفين أكبر عدداً بما لا يقاس من الإرهابيين. لكنّ الباحثين والمراقبين اعتبروا دائماً أن التطرف هو السبيل الأقصر للوصول لاستخدام العنف، بمعنى أنهم هم الأجيال الجديدة، إذ أن إمكانية التحول إلى العنف لديهم أكبر وأرجح من غيرهم.
ماذا فعلت الجهات المذكورة من المسلمين المعتدلين لتجاوُز التطرف أو إخماده؟ لقد قدموا طروحات للإصلاح الديني والفكري، وكافحوا التطرف بالمطالبة بالعودة إلى صحيح الدين أو كما يقول الماوردي: ثوابته المستقرة، وأعرافه الجامعة. فأسهموا بذلك في استعادة السواد الأعظم، لكن حدَّ من تأثيرهم أنهم ما كانوا موحَّدين، لأن أولويات علماء المؤسسة هي غير أولويات المفكرين والمثقفين والإعلاميين. والأمر الآخر الذي أَسهم في الحد من التأثير أنه كان ينقص سائر المشاركين في توجهات الاعتدال التأهُّل القائم على المعرفة بظواهر التطرف، والقائم على المعرفة الحقيقية بالعالم المعاصر تطوراً وفهماً. وبالطبع فإن المعارف لدى الفئات المذكورة تتفاوت، وإنما يقف قومٌ عند الظواهر، ويعضون عليها بالنواجذ، فيما يطمئن الآخرون لبحبوحة الجماعة. لذلك فقد عبرت عن الاحتياجات في أمرين هما: التأهل والتأهيل، بمعنى الاستعداد للظواهر الجديدة من جهة، والدعوة إلى الصحيح والثابت (التأهيل).
وهكذا فالنجاح الذي ظلَّ محدوداً، رغم ضخامة العمل، إنما كان سببه الحاجة لاكتساب المعرفة بالجديد، وإعادة بناء المؤسسات. لكنْ كان سببه أيضاً مشكلات الدولة الوطنية، وأننا إنما كنا ننهى عن المنكر أكثر بكثير مما كنا نأمر بالمعروف. والمعروف في هذه الحالة ليس صحيح الدين وحسْب، بل والدولة الوطنية الناجحة التي يمكن أن تجتذب بنموذجها الشباب، بدلاً من الانتحار خلال البحث عن أوهام الدولة والشرعية وصنع الأصيل والناجح.
إن وليَّ العهد السعودي متفائل بظهور الإسلام المعتدل والمنفتح على العالم، ليس لأن علاقتنا بديننا كانت كذلك وما تزال فقط، بل ولأن المملكة تنطلق في مشروع كبير للتنمية والتغيير، يقوم على كواهل الشباب، ويصنع لشعب المملكة وللعرب مستقبلاً آخر، يقوم على المعرفة والشجاعة، وفتح الأفق على عالم العصر. وهذا هو الإكمال للرسالة الذي كنا وكان الشباب يبحثون عنه. فبدلاً من الاقتصار كل الوقت على مكافحة المنكر، ها نحن نعمل على استكشاف آفاق المعروف، بحيث تكون الدولة الناجحةُ، دولة الحكم الصالح، هي الفاتحةُ في المشروع المُخْرِج من الوهم، والمنفتح على صحيح الدين، وصحيح العصر.
لم يتطور فقه الدولة في العالم العربي في السنوات الأخيرة باتجاه الحكم الصالح والرشيد والمُسْعِد للمواطنين، بقدر ما تطور في دولة الإمارات، ويتطور في السعودية. وهو تطورٌ ينطلق من المواطن ويركّز عليه، ويستند إليه في الإسهام البارز في مستقبل العرب ومستقبل العالم.
لقد دأبتُ في السنوات الماضية على القول إنّ هناك ثلاث أولويات عربية هي: استنقاذ الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقات بالعالم. وهكذا فإنّ عثرات الدولة الوطنية تتجه للانجبار، وللبناء، وتجاوُز الفشل، ولمخاطبة الشباب. وعلى النجاح في بناء الدولة الوطنية الجديدة، تنبني استعادةُ السكينة في الدين، ونُطِلُّ على العالم باعتبارنا لا نريد إخافته ولا الخوف منه، بل أن نكون جزءاً منه، نشارك فيه، ونُسهم في صنع تقدمه وأمنه.
* نقلا عن "الاتحاد"