على جنبها الأيمن، ترابط قوى سياسية معارضة تؤرق راحتها وتعتبرها «أسوأ الشرور» التي حلّت بالبلد.
وعلى جنبها الأيسر، فئة واسعة من الناس، خاب أملها الذي علّقته عليها اعتقاداً منها أنها خشبة الخلاص نحر بر الأمان، فإذا بهذه الفئة تتعلق على خشبة العجز والمراوحة.
ومن خلفها، عهدٌ تأخر كثيراً جداً في اعلان أبوّته لها، واعتبارها حكومة العهد، رغم انه أطلق في اجوائها زخّات من الوعود الاصلاحية والتغييرية، استبشر الناس خيراً بها، الّا انّ هذه الوعود ما زالت تحلّق في الاجواء ولم تهبط على مدرج الترجمة.
ومن أمامها، ملفّات وأولويات، تحجّمها، او تتقدم عليها فئة من المستفيدين وشركاء «التفاهمات السريّة»، الذين جعلوا الحكومة جسر عبور لتحقيق المصالح والمغانم وجَني المليارات.
ومن تحتها، ارض سياسية رخوة ورمال متحركة نَجت منها حتى الآن، ولكنها هددت بابتلاعها في اي لحظة.
ومن فوقها، تحلّق تغريدات تحريضية ومحاولات للضم والفرز وإعادة خلق الاصطفافات وتعليق البلد على خط التوتر العالي.
وفي داخلها، مكوّنات تتعايش مع بعضها البعض بالإكراه، التوافق في ما بينها هو الاستثناء، امّا التباينات والاشكالات والسجالات والمتاريس فهي القاعدة. وفوق ذلك تُجلَد من أهلها، وها هي مناقشات جلسة الموازنة التي لم يجف حبرها بعد، جَالت على كل الشوائب والصفقات التي تثير الشبهات، وباتت تتناقلها ألسنة الناس بأبطالها أصحاب التفاهمات، وبمحاولات الانتقام والنيل من إدارة المناقصات، لا لشيء الّا لأنها ملتزمة احكام القوانين المرعية الاجراء.
هذه هي الحكومة، رئيسها سعد الحريري يقول علناً «إننا نسعى»، هو مُمتعض ممّا اعتبرها مزايدات انتخابية على الجسم الحكومي، الّا انه ممتعض اكثر من حكومته التي لم تستطع حتى الآن ان تترجم اسمها «حكومة استعادة الثقة».
الرئيس ميشال عون سبق وشكى وبادر الى اجتماع للتفعيل والتنشيط والتحميس والانتاجية، وما زال ينتظر، وواضح مع الوضع الحكومي الحالي انه سينتظر طويلاً. أمّا الرئيس نبيه بري، فحتى الآن يرى انّ باب الانجاز الحكومي ممكن على كافة الصعد، وبالتأكيد هذا يتطلّب إرادة وشراكة وتحديداً للأولويات ومقاربتها بمسؤولية وشفافية.
تلك الصورة الحكومية تؤشر الى انّ الحكومة تعاني وضعاً مَرَضِيّاً صعباً، الّا انّ هناك من يرى انّ ثمة فسحة ما زالت قائمة أمامها لدخول نطاق العمل الجدي، والخروج من حلبة السجالات والمناكفات وذلك حتى لا يأتي من يقول، ربما في وقت ليس ببعيد «إن ذهبت لا سلام الله عليها» ، او بالأحرى «الله لا يردّها».
هذا الوضع «السجالي» و«المُناكفاتي» وما يواكبه من مزايدات، ينظر اليه بري بامتعاض شديد، لكنه يتجنّب الدخول مباشرة على خط توصيف ما يجري.
فحين يسأل عن أسباب هذه المناكفات وما الغاية منها وتأثيراتها على الحكومة يكتفي بالقول: «لا اعرف، الجواب ليس عندي بل عندهم، فاذهبوا واسألوهم عن الاسباب. امّا انا فما يعنيني هو مجلس النواب فقط لا غير».
كان بري يأمل «ان تَدبّ الحيوية في الحكومة كذلك الفعالية والانتاجية التي لا مبّرر على الاطلاق لأن تكون في حال المراوحة والجمود.
والبلد يحصد سلبيات ذلك، في وقت انّ المطلوب قفزة نوعية لعلها تُمكّن البلد من استرداد او التقاط أنفاسه الاقتصادية والمعيشية»
في ظل هذا الجو، فكّر بري في اللجوء الى خطوة نوعية، تتمثّل في إطلاق ورشة عمل مجلسية لمواجهة الفساد الذي هو أبو كل العلل في لبنان. اراد من خلالها ان يقتحم تلك المغارة التي تعَشّش فيها ذهنية الصفقات والسمسرات التي تهدر فيها المليارات، بالتأكيد انّ لمجلس النواب دوره، إنما الدور الاساس ايضاً هو للحكومة.
الاساس في نظر بري هو الانتظام تحت سقف القانون، وهذه هي الوصفة الأكيدة لمعالجة وضعنا المهترىء على كل المستويات، ومن هذه الخلفية يؤكد رئيس المجلس على اعتماد الأصول في إعداد الصفقات، ايّ صفقات، وحتى تلك التي لا تزيد كلفتها عن 100 مليون ليرة.
هذا هو السبيل الوحيد الذي يجب سلوكه، في اتجاه ادارة المناقصات وفق ما يقتضيه القانون والاصول، وهو أمر ينسحب على مشروع تمويل البطاقة البيومترية بمبلغ 134 مليون دولار.
هنا أقصر الطرق يتمثّل في إدارة المناقضات وتحديد دفتر شروط لا يحيد عن الاصول وأحكام القوانين المرعيّة الإجراء.
واللافت للانتباه هنا هو انّ تلزيم البطاقة البيومترية لم يكن عبر مناقصة بل بالتراضي، وفق ما تبلّغت اللجنة النيابية للمال والموازنة من ممثل وزارة الداخلية الذي قال صراحة: «لا إمكانية للذهاب الى تلزيم البطاقة البيومترية وفق مناقصة والانتهاء خلال خمسة اشهر، ومن هنا إنّ تَوجّه الحكومة هو للتلزيم بالتراضي».
يقول بري: لا للتلزيم بالتراضي، اقول بكل صراحة هذا المشروع لا مجال لأن يمرّ في مجلس النواب، هذا المشروع «ما بيمشي». ممنوع علينا ان نسير عكس السير، إنّ وجهة السَير الطبيعية والحقيقية والواضحة والمطلوبة لا بل المفروضة، هي نحو إدارة المناقصات.
فثمة تجارب كثيرة مرّت، وحصل فيها ما حصل، لقد آن لهذا الوضع الشاذ ان يتوقف، انا لا أقبل بأيّ صفقة بالتراضي، ولن اوافق على ايّ صفقة بالتراضي او ما شابه ذلك، هناك آليّة يجب ان تُعتمد، وهي التي كان يجب ان تُعتمد في السابق، اي انّ ايّ مناقصة مهما كانت كلفتها يجب ان تمرّ على ادارة المناقصات ونقطة على السطر.
(يذكر هنا ان بري ابلغ الحكومة، عبر وزير المال علي حسن خليل، بضرورة ان تسحب مشروع القانون المتعلق بتغطية كلفة إعداد البطاقة البيومترية من مجلس النواب).
هناك من اعتبر انّ تَعذّر إعداد البطاقة البيومترية وكذلك التباينات والسجالات بين مكوّنات الحكومة، تهدد إجراء الانتخابات النيابية في موعدها في ايار المقبل. هذا المنطق يرفضه رئيس المجلس ويقول: لا خوف على الانتخابات وستجري، وموعد إجرائها «مقدّس» في قانون الانتخابات، ولا يحلمَنّ احد بالتأجيل او التعطيل، هذا الأمر غير وارد على الاطلاق.
فالتباينات طبيعية وليست غريبة، ولا يجب ان تكون غريبة، ومهما كان حجمها، لا يمكن ان تؤثر على إجراء الانتخابات. ثم حتى لو تعذّرت البطاقة البيومترية، فهناك مجموعة بدائل لَحظها القانون الانتخابي في المادة 95 منه، إذ يمكن اعتماد بطاقة الهوية، ويمكن ايضاً اعتماد جواز السفر، واذا أرادوا إخراج القيد فلا مانع.
بعيداً عن انهماكات الداخل، يتابع رئيس المجلس دقائق المنطقة والمسار السياسي والميداني، بدءاً من ىسوريا «كل الاطراف تحاول ان تجمع أوراقها، وواضح انّ وقائع وتطورات الميدان السوري «تحكي عن حالها»، وميزان القوى فيها صار معروفاً اتجاهه.
الّا انّ الصورة تَشي بأنّ هناك من لا يزال يصرّ على دفع الامور الى حدود الدم، اي أن يبقى هذا المسلسل مستمراً على هذا النحو الدموي. هذا الامر في رأيي لم ولن يؤدي الى نتيجة، وانا ما زلتُ عند رأيي وهو انّ الحل السياسي هو السبيل الوحيد الذي ينبغي الوصول اليه لحل الأزمة.
ولكن في قرارة نفس بري، تسكن خِشية مستمرة ليس فقط من «تقسيم المقَسّم»، لا بل من توسّعه، فرياحه الصفراء ضربت العراق، وحسناً فعل الأخوة في العراق في حوارهم مع الاخوة الأكراد، وهذا امر أشجّعه. وها هي رياح الانفصال تحاول التمدّد الى خارج العراق وقد وصلت الى قلب اوروبا، ولهذا السبب راسَلتُ رئيسة البرلمان الاسباني بالتأكيد على وحدة اسبانيا.
فهذا الامر (الانفصال او الانفصالات) يؤدي الى خربطة خرائط دول من منطقة العرب الى كل اوروبا، فإذا نجح هذا الامر فاليوم اسبانيا وغداً فرنسا والمانيا وايطاليا وبريطانيا، اي انّ عدوى الانفصال ستنتقل من دولة الى دولة، وتجعل كل فئة تشعر بأنها قوية سياسياً أو اقتصادياً، تُطالب بالانفصال.