بعدما فتح وزير الاتصالات جمال الجراح ملف «أوجيرو» وشبكة الألياف الضوئية، يبدو أنه سيكون عاجزاً عن الإجابة عن سؤال مجلس شورى الدولة عن ادعاءاته بعدم الأهلية التقنية لمستخدمي هيئة «أوجيرو» بتمديد الألياف البصرية، إذ تؤكّد مصادر «الهيئة» أنها «باشرت فعلاً بتنفيذ المشروع وأتمّت أجزاء لا بأس بها منه»، ما يؤكّد أن ما يقوم به الجراح ليس سوى سياسة تهدف إلى تدمير إحدى مؤسسات الدولة لمصلحة أصحاب شركات خاصة

 
 

لم تمُرّ القرارات السريعة والمفاجئة لوزير الاتصالات جمال الجراح مرور الكرام. فإصداره قراراً بوقف عقود الصيانة والتشغيل مع هيئة «أوجيرو» كشف عن نهج سياسي يهدف إلى تدمير إحدى مؤسسات الدولة، بهدف تأمين أرباح خيالية للشركات الخاصة المملوكة من شركاء أساسيين في السلطة ورجال أعمال تابعين لهم.

الجراح يقود اليوم معركة هذا النهج، وبدأ تطبيقه عملياً منذ أيار الماضي، من خلال قرارات تؤدي عملياً إلى تدمير هيئة «أوجيرو»، أو على الأقل تحييدها لمصلحة شركات خاصة أعطيت حقّ تشغيل البنية التحتية التي تملكها الدولة، وجني 80 في المئة من العائدات، مقابل منح الدولة 20 في المئة فقط. وسعى الجراح إلى ذلك تحت حجة أن «الهيئة» غير قادرة على تأمين خدمة إنترنت سريعة للمواطنين، ما يفرض عملياً منح شركات خاصة مشروع الألياف الضوئية (فايبر أوبتيك). وهذا المشروع مرتبط بالبنية التحتية اللازمة لتأسيس قطاع اتصالات متطور قائم على خدمة إنترنت سريعة جداً، بسعات عالية، وأكثر أمناً من التقنيات المستخدمة حالياً للإنترنت في لبنان. وقد بدأ مشروع الألياف الضوئية في حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، حين انتزع وزير الاتصالات يومها، شربل نحاس، من الحكومة قراراً بتمويل هذا المشروع. وبعد تنفيذ أعمال البنية التحتية اللازمة لهذا المشروع، اتهم المدير العام السابق لـ«أوجيرو»، عبد المنعم يوسف، بعرقلة بدء الاستفادة من المشروع، لكي يُتاح للشركات الخاصة الاستحواذ على سوق الإنترنت. لكن إزاحة يوسف من منصبه، وتعيين عماد كريدية مكانه، لم يحلّا المشكلة. فبدلاً من أن تباشر «أوجيرو» في تنفيذ المشروع بعد «تطيير» المعرقل، فوجئ اللبنانيون بالقرار الفضيحة الذي اتخذه الجراح في أيار الماضي، وكشفت عنه «الأخبار» حينها، إذ مُنحت شركة «غلوبال داتا سرفيسز» احتكاراً وامتيازاً لاستغلال مصلحة عامة، وبيع خدمة نقل المعلومات للمشتركين عبر شبكة الألياف البصرية.

 

وبدلاً من أن يكلّف الوزير المؤسسة العامة، أي «أوجيرو»، باستكمال ما بدأت به، قام بمنح البنية التحتية التي تملكها الدولة إلى شركات خاصة، ما سيدرّ عليها مئات ملايين الدولارات على حساب خزينة الدولة، الأمر الذي وصفه أحد خبراء الاتصالات بأنه «نهر من الأموال، سيصبّ في النهاية في جيوب كبار رجال الأعمال والسياسيين، ولا يبقى للدولة منه إلا فتات».
القضية برمتها اليوم باتت في عهدة مجلس شورى الدولة، الذي سيبتّ المراجعة التي تقدمت بها نقابة العاملين في «أوجيرو»، والاتحاد العمالي العام، اللذين طلبا إلغاء قرارات الجراح. وقد بعثت المستشارة المقرّرة في القضية، القاضية ميراي عماطوري برسالة إلى وزارة الاتصالات، تطلب فيها تبرير عدد من الثغَر في قرارات الجراح (كمنح إحدى الشركات حق الحصول على 80 في المئة من الإيرادات، ومنح شركة أخرى 40 في المئة فقط). ومما طلبته عماطوري، تفسير سبب عدم تكليف «أوجيرو» بمدّ الألياف البصرية، أو إثبات عدم الأهلية التقنية لمستخدميها بتمديد الألياف البصرية وعدم قدرة «أوجيرو» المادية على القيام بذلك. والإجابة عن هذا السؤال ستفضح ادعاءات الجراح. فبعدما طلب الأخير من كريدية الرد بإفادة كاذبة تؤكد عدم قدرة الهيئة على القيام بهذه الأعمال، ورفض كريدية هذا الطلب، يبدو أن إجابة «الاتصالات» عن هذا السؤال ستكون صعبة، نظراً إلى عدم إمكانية التلاعب بالوقائع. فـ«أوجيرو» أثبتت عملياً قدرتها على تنفيذ المشروع، إذ بحسب مصادر الهيئة، فإنها «نفذت نحو 90 في المئة من مشروع إيصال الألياف الضوئية للمؤسسات (FTTO) في المدن (وزارة الدفاع، مصارف، مؤسسات رسمية وشركات كبرى...)، فضلاً عن إنجاز إيصال الألياف الضوئية إلى عشرات القرى والبلدات (FTTC)، فيما تبقى الألياف الضوئية إلى المنازل (FTTH) التي بدأت أوجيرو بتمديدها في بيروت، وخاصة في منطقتي الحمرا والأشرفية. وفي البند الأخير (الفايبر إلى المنازل)، يكمن المنجم المالي الذي يريد الجراح منحه لأصحاب الشركات الخاصة. فإبلاغ المواطنين بوجود خدمة إنترنت بسرعات عالية جداً، ومضمونة، وآمنة، وبسعات كبيرة، تسمح بالحصول، إضافة إلى الإنترنت، على خدمة البث التلفزيوني الرقمي، والاتصالات، وخدمات أخرى، سيفتح الباب أمام إقبال واسع على طلب الاتصال بشبكة «الألياف الضوئية»، وهذه التقنية تمثّل مستقبل قطاع الاتصالات. وفي الكثير من دول العالم، لم تعد شركات الهاتف الخلوي تبيع المواطنين خدمات الاتصالات الصوتية والرسائل النصية، بل تمنحها مجاناً إلى جانب حزمة الإنترنت، المبنية كلها على تمديدات «الألياف الضوئية». وتلفت مصادر في «أوجيرو» إلى أن قرار الجراح وقف عقد الهيئة، أتى في مرحلة بدئها تمديد «الألياف إلى المنازل». ففسخ العقد بين الوزارة والهيئة يحول دون شراء الأخيرة المعدات اللازمة لتمديد اشتراكات «الألياف» إلى المنازل. وبحسب المصادر نفسها، فإن قرار الوزير يمنح أفضلية للشركات الخاصة، وتحديداً شركة «جي دي أس»، بما يتيح لها التفوق على «أوجيرو»، وتحصيل أرباح خيالية على حساب المال العام.
وإضافة إلى ما تقدّم، ثمة جانب أمني خطير. فمنح شركة «جي دي أس» حق تمديد شبكة «الألياف الضوئية» وتشغيلها، يضع بيانات المشتركين في عهدة شركة خاصة، بدل أن تكون مصانة لدى المؤسسات العامة. وتلفت مصادر في «أوجيرو» إلى أن موظفي الهيئة معروفون، يعملون كلّ في منطقته، ومضمونون أمنياً. أما شركة «جي دي أس»، فلا أحد يعرف موظفيها، علماً بأنها، على ذمة مصادر في «أوجيرو»، لا تعمل في مجال تمديد الألياف الضوئية، بل تستعين بشركة أخرى تُدعى «ECT».
هذه الفضيحة لا تضع وزارة الاتصالات وحدها تحت المجهر. فمجلس شورى الدولة أيضاً أمام اختبار جديد، وهو الذي أزيح رئيسه القاضي شكري صادر منذ فترة بحجّة تراكم الملفات فيه. والمطلوب من المجلس أن يسارع إلى بتّ هذه القضية وإبطال قرارات الجراح، حماية للمال العام، ولمؤسسة عامة يُراد قتلها. كذلك يبرز دور لجنة الإعلام والاتصالات النيابية، برئاسة النائب حسن فضل الله، التي ستجتمع غداً، للبحث في جدول أعمال لم تُدرج عليه قضية «الفايبر أوبتيك»، كون الأزمة اندلعت الأسبوع الفائت بين الجراح وكريدية، بعد الدعوة إلى عقد الجلسة. لكن اللجنة مطالبة ببحث هذا الملف، الذي ستؤدي قرارات الجراح فيه إلى إهدار مئات ملايين الدولارات وتحويلها من مال عام إلى مال خاص. وفي هذا الإطار، كشفت مصادر نيابية بارزة أن «مجلس النواب لن يقف ساكتاً في هذا الملف، وهو سيكون في انتظار كلمة القضاء، قبل التحرك. فإذا ما ثبت فعلاً وجود عمليات سرقة وهدر، فإن المجلس يُمكن أن يتحرك للضغط باتجاه عدم دفع الأموال لوزارة الاتصالات». وفيما استدعت الضجة التي افتعلها الجراح من الرئيس سعد الحريري، ومدير مكتبه نادر الحريري التحرك لإعادة الأمور إلى نصابها بين الجراح وكريدية والمستشار نبيل يموت (الذي أقصاه الجراح صباح يوم الخميس الفائت ثم أعاده إلى عمله بعد ظهر اليوم نفسه بضغط من الحريري)، علمت «الأخبار» أن «اجتماعاً عقد أمس في منزل الحريري، ضمه ومدير مكتبه إلى الجراح ويموت وكريدية، من أجل متابعة ما وصل إليه هذا الملف، وإيجاد تسوية بين الوزير والمدير العام».