تتوالى فصول فضيحة خصخصة مشروع «الألياف البصرية»، العصب الرئيسي لقطاع الاتصالات، وإهداء أملاك الدولة وأرباحها البالغة مئات ملايين الدولارات لمصلحة شركة «غلوبال داتا سيرفيسز» (جي دي اس). والواضح أن هذا القطاع بات رهينة المصالح الانتخابية والخاصة، إذ سمح وزير الاتصالات جمال الجراح لنفسه بالتعامل مع ملك الدولة على أنه ملك خاص به يستعمله متى شاء لفرض طلباته على «أوجيرو» أو أيٍّ من يقف في وجه منفعته الانتخابية، ومنفعة تياره. ويبدو أن لا الوزير ولا فريقه السياسي يكترثان للفضائح التي تخرج يومياً من باب الوزارة التي سلّمت 80% من عائدات تشغيل الألياف الضوئية لشركة «جي دي أس»، التي تبين أن الشركات المتفرعة منها مملوكة من قبل تحالف القوى الحاكمة، وعلى رأسه آل الحريري ومقربون من التيار الوطني الحر.
حاول الجراح التخفيف من وقع الفضيحة، عبر إدخال شركة أخرى غير «جي دي أس»، للعمل في المشروع ذاته. إلا أن قراره الصادر يوم 12 حزيران 2017، تضمّن فضيحة أخرى. فهو منح شركة «وايفز» حق استخدام أملاك الدولة، لإيصال الألياف الضوئية إلى المشتركين، على أن تحصل الشركة على 40 في المئة ممّا تحصّله، في مقابل 60 في المئة للدولة (علماً أنه منح «جي دي اس» نسبة 80 في المئة في مقابل 20 في المئة للدولة!).
ورغم أن الجراح سمح أيضاً لهيئة «أوجيرو»، وهي مؤسسة عامة، بأن تعمل في المجال نفسه، إلا أن أداءه يُظهر قراراً واضحاً بتحجيم المؤسسة العامة، لمصلحة الشركات الخاصة. وفي هذا المجال تحديداً، يكمن أحد أسباب خلافه مع المدير العام لهيئة أوجيرو، عماد كريدية. والأخير، بحسب مصادر واسعة الاطلاع في قطاع الاتصالات، يتصدى للجراح، بالتضامن مع نقابة العاملين في «أوجيرو». والأخيرة عمدت مع الاتحاد العمالي العام إلى الطعن في قرارات الجراح أمام مجلس شورى الدولة، طالبة وقف تنفيذها.
في الرابع من الشهر الجاري، وجّهت المستشارة المقررة في مجلس الشورى، القاضية ميراي عماطوري، كتاباً إلى وزارة الاتصالات، طلبت فيه توضيح عدد من النقاط، أبرزها، سبب التفاوت في النسبة التي ستحصل عليها الدولة من أعمال كل من «جي دي أس» و«وايفز».
كذلك طلبت عماطوري من وزير الاتصالات «الإفادة عن سبب عدم تكليف هيئة أوجيرو مدّ الألياف البصرية أو إثبات عدم الأهلية التقنية لمستخدمي الهيئة بتمديد الألياف وعدم قدرة أوجيرو المادية على القيام بذلك». وأكّدت مصادر رفيعة المستوى في «أوجيرو» لـ«الأخبار» أن الجراح، على أثر كتاب عماطوري، طلب من كريدية تزويده بإفادة، كاذبة، تؤكد عدم قدرة الهيئة على القيام بهذه الأعمال، إلا أن كريدية قابل الطلب بالرفض. وقال كريدية للجراح إن أوجيرو قادرة على تنفيذ المشروع، وإن كانت بحاجة إلى إدخال شركات أخرى، فإنها ستعمد إلى تلزيم الأشغال لشركات خاصة، على أن ينتهي دور هذه الشركات فور تنفيذ الأشغال، لتبقى الإدارة بيد «أوجيرو». ما سبق هو واحد من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفاقم الخلاف بين الرجلين، رغم أن الوزير عضو قيادي في تيار المستقبل، ونائب في كتلته، وكريدية مُعَيَّن في منصبه بقرار من التيار نفسه. فكريدية، بحسب مصادر في «الهيئة»، يرى في ما يريده الوزير خطراً على مستقبل «أوجيرو» يؤدي عملياً إلى «خصخصتها» بصورة أو بأخرى.
أضيف إلى ذلك أن كريدية رفض تلبية طلبات للجراح باستعمال هيئة «أوجيرو» كماكينة انتخابية في البقاع عبر توظيف محازبين فيها وفتح مراكز لأوجيرو في القضاء، من دون اعتمادات مالية تسمح بذلك. علماً بأن المدير العام وظّف نحو 100 مياوم في الهيئة بناءً على طلب الوزير، قبل أن يلفت نظره إلى أنها لم تعد قادرة على استيعاب المزيد. هكذا ضاق صدر الجراح من كريدية، ففسخ قبل ثلاثة أيام العقد الرئيسي بين الوزارة وأوجيرو، متهماً كريدية «بالتشغيل تلقائياً لغايات شخصية وهدر المال العام». كذلك فسخ الجراح أول من أمس عقد مستشاره نبيل يمّوت، متهماً إياه برعاية كريدية، قبل أن يُجبر الرئيس سعد الحريري ومدير مكتبه نادر الحريري، وزيرَ الاتصالات على إصدار قرار ثانٍ في اليوم نفسه، يعيّن فيه يمّوت مستشاراً أول في الوزارة (راجع عدد «الأخبار» أمس).
الفضائح في هذا الملف لا تقف عند هذا الحد. فالاتحاد العمالي العام ونقابة العاملين في «أوجيرو» كانا قد تقدّما من مجلس شورى الدولة بطلب وقف تنفيذ قرار الجراح بتسليم «الألياف الضوئية» لشركة «جي دي سي» إلى حين صدور الحكم النهائي بأصل الطعن في القرار. لكنّ غرفة مجلس الشورى التي يرأسها القاضي يوسف نصر أصدرت في 6 أيلول الماضي قراراً برد الطلب «بما أنه لا يتبين من المراجعة أن شروط وقف التنفيذ المنصوص عليها في المادة 77 من نظام المجلس متوافرة». وهنا تكمن الفضيحة. فنصر هو رئيس الهيئة الأولى في لجنة الاعتراضات في وزارة الاتصالات، أي إنه يتقاضى بدلات أتعاب من وزارة الاتصالات التي أصدر حكمه لمصلحتها. إذ إن بديهيات العدالة تفرض أن يتنحى نصر عن النظر في هذه القضية، بسبب تضارب المصالح بين عمله قاضياً في مجلس شورى الدولة وعمله في وزارة الاتصالات التي ينظر في شكوى ضدها. غير أن رئيس مجلس شورى الدولة السابق شكري صادر، وفي اتصال مع «الأخبار»، رأى أن لا علاقة بين الوظيفة التي يشغلها القاضي نصر في الاتصالات وحكمه كقاضٍ في القضية، «إذ يتولى القاضي نصر هذه اللجنة في وزارة الاتصالات منذ نحو 20 عاماً ويتقاضى راتباً بثلاثمئة ألف ليرة للتدقيق في فواتير الهواتف الخلوية إلى جانب قاضيين آخرين. وفعلياً هذه المهمة أصبحت عبئاً على كاهله». وأشاد صادر بنصر، مشيراً إلى أنه «أحسن وأشرف قاضٍ أعرفه في شورى الدولة». وعمّا إذا كان تضارب المصالح بين مهمة القاضي ووظيفته يسبب «ارتياباً مشروعاً»، أجاب صادر بأن «الارتياب المشروع أخطر من ذلك بكثير».
معارك رجالات تيار المستقبل الداخلية تحولت إلى نقمة عليهم وعلى فريقهم السياسي، إذ لم يعد بإمكان الحريري لملمة الفضيحة عبر اجتماع في منزله بوادي أبو جميل. فيوم أمس تحرك النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم مباشرة طالباً من الجراح إرسال المعطيات التي تثبت تهم الهدر المالي وسوء الإدارة والفساد التي وجّهها الوزير إلى المدير العام لـ«أوجيرو»