الحرس الثوري القوة الضاربة التي تقود توسع الإمبراطورية الإيرانية، نفوذه يترسَّخ في مناطق عديدة بالشرق الأوسط، ولكن في موطنه الأصلي يبدو أنه يواجه تحدياً غير مسبوق.
من مقرها المكون من تسعة طوابق في أحد الأحياء الراقية بطهران، تُدير شركة بناء عملاقة أعمالها عبر إيران، وتبني مساجد ومطارات ومنشآت للنفط والغاز، بالإضافة إلى المستشفيات وناطحات السحاب.
ويقف الحراس المسلحون على الأبواب، وبجوارهم ملصقات صغيرة على جدرانها الخارجية تُكرم ذكرى الإيرانيين الذين ماتوا في الحروب الحالية بسوريا والعراق.
ولكن هذه المؤسسة ليست مجرد شركة. إذ إنَّ شركة "خاتم الأنبياء" هي أهم ذراع اقتصادي للحرس الثوري الإسلامي الإيراني. ويعمل بها ما يقرب من 1.5 مليون شخص، بما في ذلك مقاولون من الباطن، ويرأس هذه الشركة قائدٌ عسكري.
ومع ذلك، فإنَّ العلامات الظاهرية لقوة الشركة تُخفي رياح التغيير القوية التي تعصف بأعمالها، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
إذ تتعرض الشركة لحملة شرسة بقيادة الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، والذي وعد في أثناء ترشحه للانتخابات الأخيرة بإطلاق العنان للنمو الاقتصادي من خلال استكمال الاتفاق النووي وتحرير البلاد من العقوبات الدولية.
وبعد أن تمكَّن روحاني من تحقيق بعض وعوده، رغم أنَّ بعض العقوبات لا تزال قائمة، حوَّل اهتمامه الآن على الحرس الثوري، إذ يرى احتكار الحرس الثوري لقطاعاتٍ كبيرة من الاقتصاد وميله نحو الفساد عائقاً كبيراً أمام النمو الذي وعد به روحاني بعد استكمال الاتفاق النووي.
موقف المرشد
هذه الحملة التي يقودها روحاني ضد معقلٍ للامتياز والسلطة لطالما اعتقد الكثيرون أنَّه بمثابة حصنٍ منيع، يبدو أنَّها تحظى بكل الدعم اللازم من آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران، والذي انتقد مسؤولين بسبب تفشي الفساد في جميع طبقات النظام السياسي الإيراني، بما في ذلك الحكومة.
ودعا آية الله الحكومة مؤخراً إلى التواصل مع الدول الأجنبية لجذب الاستثمارات والمشروعات الجديدة.
وقال الرئيس روحاني لمجموعة من المسؤولين التنفيذيين بوسائل الإعلام خلال زيارته للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، في سبتمبر/أيلول 2017: "ما سعيتُ إليه هو أن تصبح لدينا منافسة حرة في الاقتصاد. لا يمكن لأي مؤسسة أن تستخدم سلطتها في الحصول على مكاسب. يجب أن نكون منفتحين ونزيهين، ولا يمكن أن يكون هناك أي احتكار في أي قطاع. وجميع القطاعات يجب أن تكون منتجة.
وأضاف: نحن ندفع ونشجع على وجود مناخ أكثر انفتاحاً للشركات، بمنافسة مفتوحة ونزيهة، وبدون قطاعات مُحتَكَرة".
وكانت مواجهة الرئيس الإيراني حسن روحاني للحرس الثوري قد بدأت قبل ذلك، فعشيّة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها في مايو/أيار 2017، حثَّ روحاني الحرس الثوري وميليشيا الباسيج التابعة له على عدم التدخل في المسار الانتخابي، في ظل شكوك بأنهما زوّرا نتائج الانتخابات لصالح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في 2009، وأدت هذه الشكوك لخروج مظاهرات في جميع أنحاء البلاد.
حصانة ومغامرات
على مدى سنوات، عملت الشركة "خاتم الأنبياء" العملاقة في مجال البناء، وتتمتع مثلها مثل العديد من الشركات والتكتلات الأخرى التي يُديرها الحرس الثوري بحصانةٍ كبيرة، دون أن تخضع لنفوذ السلطات المدنية.
وكانت تقود النظام الاقتصادي الإيراني المُعرقَل بسبب العقوبات، وتمول بالوقت ذاته مغامرات الحرس الثوري العسكرية في المنطقة، وتزيد ثروات القادة المتشددين والزعماء من رجال الدين دون مصادفة.
لكن الآن، ومع رفع العديد من العقوبات بعد الاتفاق النووي، وبينما تحاول الحكومة فتح البلاد للمنافسة والاستثمار الأجنبي، يُنظَر إلى الهيمنة الاقتصادية للمجموعة على نحوٍ متزايد باعتبارها عائقاً.
فسمعة الحرس الثوري الدولية لتدخله في الشؤون الإقليمية، واحتمال تصنيفه مجموعةً إرهابية من قبل إدارة ترامب، والعقوبات التي لا تزال قائمة، كل هذه الأمور تجعله شريكاً تجارياً مُضِرَّاً للشركات الغربية والآسيوية التي تحتاجها طهران لتنشيط اقتصادها وإعادة بناء البنية التحتية المتدهورة، وفقاً لنيويورك تايمز.
ونتيجة لذلك، خفضت إيران ميزانيته، وأسندت مشروعات حكومية كبيرة كانت في السابق تعد حكراً له إلى شركاتٍ أخرى. كما ألقت السلطات الإيرانية القبض على العديد من كبار أعضاء الحرس الثوري للاشتباه في فسادهم.
تكشفت هذه التغيرات بشكلٍ مطرد على مدار الصيف المنصرم، حسب تقرير الصحيفة الأميركية.
ففي يوليو/تموز 2017، صرح المُشرِّعون لوسائل الأنباء المحلية بأنَّ الحكومة قرَّرت خفض الميزانية السنوية لشركة "خاتم الأنبياء".
ونقلت صحيفة "شارج" المحلية عن المُشرِّع غلام تاجغردون قوله "لا يمكنهم الاستحواذ على كل مشروع، لاسيما تلك التي يمكن لشركات المقاولات الخاصة أن تقوم بها".
فساد واعتقالات
وخلال الصيف، ألقى جهاز المخابرات بالحرس الثوري ذاته القبض على العديد من مسؤولي الحرس الثوري السابقين للاشتباه فى فسادهم، وذلك وفقاً لتأكيد عضوٍ نافذ بالبرلمان الأسبوع الماضى من خلال تطبيق الرسائل تيليغرام.
كما أُلقِيَ القبضُ على اثنين من الخبراء الاستراتيجيين المتشددين في وسائل الإعلام يتبعون الحرس الثوري، في إشارةٍ إلى أنَّ إمبراطوريته الإعلامية المؤثرة قد أصبحت تحت الحصار.
وفي الآونة الأخيرة، هُمِّشَت شركة "خاتم الأنبياء" في مشروعين رئيسيين للنفط والشحن، لصالح مقدمي عطاءات من فرنسا وكوريا الجنوبية.
ويقول المُطلعون إنَّ الاعتقالات تؤكد التزام القيادة العليا للحرس الثورى بالحد من الفساد والتهريب الذي ترتكبه قواتها المسيطرة على كافة حدود إيران.
كيف أقنعهم؟
وقال الخبير الاقتصادى المقرب من الحكومة سعيد لايلاز: "لقد استلزم ذلك بذل الكثير من الجهد، لكنَّ الرئيس روحاني أقنع كبار القادة أنَّه إذا لم يأخذ الفساد المنظم والمحسوبية على محمل الجد، فإنَّ ركائز النظام سوف تُقوَّض، فهذه الحالات هي غيض من فيض الفساد الواسع المنتشر بالبلاد على جميع مستويات الدولة".
وفي معظم أنحاء العالم، يُعرَف الحرس الثوري بجناحه العسكري الذي يقود الجهود الإيرانية لدعم حليفه الرئيس السوري بشار الأسد في معركته ضد المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
إذ أرسل الحرس الثوري آلاف الجنود الإيرانيين لتقديم المشورة والقتال، مما ساعد على ترجيح كفة الأسد في كلتا الحربين.
وعلى الصعيد المحلي، يُشرِف الحرس الثوري على برنامج إيران الصاروخي العدواني، الذي تسبب في خلافٍ هائل مع إدارة ترامب.
وتماشياً مع دورها العسكري الذي يزداد وضوحاً، ازدادت مؤخراً ميزانية الحرس الثوري لتمويل الأنشطة العسكرية والبرنامج الصاروخي. بيد أنَّ كبار المسؤولين أصبحوا ينظرون بشكلٍ متزايد إلى أنشطته الاقتصادية باعتبارها عائقاً.
"فخورون به"
كانت العقوبات الدولية التأديبية التي فُرِضَت على إيران بقيادة الولايات المتحدة خلال سنوات أوباما هي ما مكَّن الحرس الثوري من لعب هذا الدور في الاقتصاد.
ففي ذروة العقوبات، ابتداءً من عام 2009، وجدت الحكومة الإيرانية نفسها معزولةً عن سوق الائتمان الدولي. وفي ظل انسحاب الشركات الأجنبية، وعدم رغبة البنوك العالمية في تمويل التجارة أو الاستثمار، اضطرت طهران إلى التوجه للحرس الثوري لتسيير أمور البلاد.
وقال المحلل المقرب من القادة الإيرانيين حميد رضا: "خلال فترة العقوبات، لم نتمكن من التصدير، وكنا بحاجة إلى سلع. تدخل الحرس الثوري حينها وكنا فخورين بذلك". ووصف رضا كيف استولى الحرس الثوري على مشروعات النفط من شركاتٍ مثل شركة رويال داتش شل، وباعه لبعض البلدان المستعدة للشراء، وصمَّم طرقاً معقدة لنقل الأموال النقدية إلى البلاد. وأضاف رضا "جلبوا العملة الصعبة للبلاد. لقد أنقذوا إيران".
تعويل على ترامب
ومن هذا المنظور، فإنَّ رفض الرئيس ترامب الأسبوع الماضي لإعادة التصديق على الاتفاق النووي الإيراني، وإمكانية فرض عقوبات فردية جديدة من جانب الولايات المتحدة على إيران، قد يحمل أخباراً سارّة للحرس الثوري من شأنها أن تعيده إلى الدور المركزي في الاقتصاد الإيراني.
وبعد رفع أقسى العقوبات في أعقاب الاتفاق النووي في عام 2015، رأى كثيرون بالحكومة أنَّ الاقتصاد الإيراني بحاجة إلى دماء جديدة. وقال لايلاز: "نحن بحاجة إلى اقتصادٍ تنافسي بشكلٍ أكبر. هذا كل ما في الأمر".
حكومة بأسلحة
بدأت التوترات حول الأنشطة الاقتصادية للحرس الثوري في الظهور للمرة الأولى خلال حملة إعادة انتخاب روحاني، في مايو/أيار 2017، عندما أشار ضمناً إلى أنَّ الحرس الثوري كان المستفيد الرئيسي من عمليات الخصخصة المختلفة.
وقال روحاني: "لقد سلمنا اقتصادنا إلى حكومةٍ لديها الأسلحة، ووسائل الإعلام، وغيرها من الأمور، ولن يجرؤ أحد على منافستها، وتلك ليست خصخصة".
وسارع الحرس الثوري، الذي انتقد روحاني بشدة بسبب ما وصفه بتنازلات حكومته من أجل إبرام الاتفاق النووي، بالإشارة إلى أهميته العسكرية. وقال قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري: "نعتقد أنَّ الحكومة التي لا تملك سلاحاً، يمكن أن يُذلها عدوها ويُخضعها".
وبعد فوز روحاني بالانتخابات في مايو/أيار 2017، عُقِدَ اجتماعان رفيعا المستوى مع قادة الحرس الثوري. ونتيجة لذلك، وربما بعد أن أظهر آية الله خامنئي دعمه لروحاني، بدا أن الحرس الثوري سيخضع للقواعد الجديدة.
ضغوط على إعلامه
وحتى وسائل الإعلام الإخبارية المحافظة بدأت تخضع للتقييد. وذكرت صحيفة كيهان الحكومية أنَّه قد أُلقِيَ القبض على شخصيتين إعلاميتين تابعتين للحرس الثوري، وهما رضا غولبور ومحمد حسين رستمي، واتهما بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية.
وأدت هذه الاعتقالات إلى تهميش شبكة وسائل الإعلام المتشددة والمجموعات البحثية التي عملت لصالح "مقرّ عمار الاستراتيجي"، الذي يهاجم بشراسة منذ ما يقارب عقدٍ خصوم الشخصيات المتشددة.
وقال لايلاز: "هناك حرب إعلامية أيضاً"، مضيفاً أنَّه قد أُلقِيَ القبض في الأشهر الأخيرة على عدة مديرين لقنواتٍ موالية لروحاني على تطبيق تيليغرام.
وقال باهمان إسغي، الأمين العام لغرفة تجارة طهران، إنَّه سيكون من الخطأ افتراض أن الحرس الثوري سيخرج تماماً من الاقتصاد الإيراني قريباً.
فمن الناحية الدستورية، يتعين عليه استخدام ممتلكاته في زمن السلم للمساعدة في التنمية الاقتصادية، وعملياً، وحيثُ إنَّ القطاع الخاص لا يمثل سوى 20% من الاقتصاد، فالبلاد تحتاج إلى ثقله الاقتصادي.
وأضاف إسغي: "الحقيقة هي أنَّ الحرس الثوري هو قاطرة اقتصادنا، وببساطة قطاعنا الخاص صغيرٌ جداً ليحل محله".