يقول المثل الشعبيّ "بعيد عن العين.. بعيد عن القلب" وتطبّق الدولة اللبنانيّة هذه المقولة ولكن على مبدأٍ آخر يتناسب مع استنسابيّتها ونظرتها الخبيثة للأمور، وتؤكّد للمرّة الألف بعد المئة أنّ "البعيد عن العاصمة.. بعيد عن الإنماء"، وربما خارج خارطة هذا البلد الصغير الذي ضاق عن استقطاب كيلو متراته الـ 10,452.
لا تكاد تنتهي فصول الحرمان في محافظةٍ شاءت لعنة الجغرافية أن تجعل منها نائية، ولكنّها إن كانت رَضِيَت بِلعنة الجغرافيا فلن ترضى بِلعنة الإهمال المُمنهج الذي يُمارس بحقّها وحقّ كلّ من شاء قَدَره السيء أن ينتسب لسجلّات قيدها.
أمّا آخر هذه الفصول فهي "التشكيلات القضائية" التي بُنيت على استنسابية فاضحة. فلليوم الرابع على التوالي يستمر محامو بعلبك – الهرمل بمقاطعة الجلسات أمام كل المحاكم في المحافظة احتجاجاً على الإجحاف والحرمان الذي لحق بالمحافظة من جرّاءِ التشكيلات القضائية الأخيرة.
التشكيلات التي زادت بحسب المحامين "الطين بلّةً" ونقلتهم من "حالٍ سيئ لأسوأ"، وعُيِّنَ بموجبها قاضٍ منفردٍ مدنيّ واحد لبعلبك وهو نفسه للهرمل ورأس بعلبك، بعدما كان هناك قاضٍ منفردٍ مدني لبعلبك، وقاضٍ منفردٍ مدنيٍّ وجزائيّ للهرمل ورأس بعلبك ما يعني أنَّ القاضي المنفرد المدنيّ سيكون قاضياً لبعلبك والهرمل ورأس بعلبك، ومسؤولاً عن 6 غرف قضائيّة بالوقت نفسه، ما يجعل من مهمّته شبه مستحيلةٍ في ظلِّ تراكم الملفّات القضائية بعشرات الآلاف.
يؤكّدُ رئيس لجنة المُتابِعة لمطالب محامي بعلبك الهرمل المحامي دريد ياغي لـ"ليبانون ديبايت" أنّ 100 محامياً في محافظة بعلبك الهرمل يقاطعون الجلسات أمام كلّ المحاكم ويستمرُّون في المقاطعة حتّى تصحيحِ الخلل وزيادة عدد القُضاة في المنطقة وتحقيق المطالب التي تَحمي العدل والعدالة في المحافظة.
أمّا هذه المطالب فيلخّصها ياغي بما يأتي: "زيادة عدد القُضاة المدنيّين من 1 إلى 3 كحدٍّ أدنى، وزيادة عددِ القُضاة الجزائيّين من 1 إلى 2، للنظر وتخليص الدعاوى التي وصلت إلى أكثر من 10 آلاف محضرٍ ومعاملة في النيابة العامّة، وأكثر من 6 آلاف دعوى جزائيّة في خزائن ما يُسمّى بقصر العدل، وهي الأرقامُ التي تأكّد المعنيون منها بعد التفتيش وقبل التشكيلات القضائيّة".
ويتابعُ ياغي شارحاً الأوضاع غير العادلة في المحافظة، فـ"محكمة البداية تجلس في بعلبك مرّةً واحدةً في الشهر، وتنظر في الدعاوى العائدة لبعلبك فقط، بينما محكمة البداية في الهرمل تجلسُ أيضاً مرّةً واحدةً في الشهر وتستأنف في زحلة، وعلى أبناء مدينة الهرمل تَحمُّل مشقّة الانتقال إلى زحلة للنظر في دعاويهم القضائية، بدل أن يكون الاستئناف في المحافظة نفسها".
ويطالبُ المحامون أيضاً بـ"تكليف محامينَ عامّين، والإيعاز بجلوس محكمة جنايات في البقاع بإحدى غرفتيها الموجدتَين حاليّاً في زحلة، وتكليف قاضي تحقيق للمحافظة، واستحداث قصرٍ جديد للعدل في المدينة يليقُ بالقَضاء وبالمحافظة وأبنائها، فالقصرُ الحاليّ لا يشبه قصر العدل لا من قريبٍ ولا من بعيد (غرفٌ صغيرةٌ في بناءٍ مُهلهَل وغير صالحٍ للسكن)، وإنشاء سرايا حكوميّ ومجمّعٍ حكوميّ، أي توحيد الأجهزة الحكوميّة في مكانٍ موحّدٍ في المدينة".
وكشف ياغي عن الاجتماع الذي حصلَ في الأيّام القليلة الماضية وجمع عدد من محامي بعلبك الهرمل ونقيب المحامين والمجلس النقابي في بيروت برئيس مجلس القَضاء الأعلى القاضي جان فهد، الذي تفهّمَ بعد نقاشٍ طويلٍ حاجة المحافظة وضرورة زيادة عدد القُضاة فيها، وتعهّد بزيادة قاضيينِ مدنيّينِ لجانب القاضي الحاليّ، وقاضٍ جزائيٍّ واحد لجانب القاضي الجزائيّ الموجود.
ويتطلّع المحامون إلى هذه التعهّدات بأنّها "أكثر من وعودٍ" على اعتبار أنّ الرئيس الأوّل له أن يأخذ قراراً بتحويلِ "أحد القُضاة المتخومَة بهم المحاكم في زحلة إلى بعلبك – الهرمل".
وعلى الرّغم من هذا التعهّد الذي يُقدّرهُ محامو بعلبك – الهرمل، يستمرّ هؤلاء باعتصامهم، "إلى أن تقترن الأقوال بالأفعال، وحتّى تحقيق كامل المطالب وإنصاف المنطقة والنظر إليها كجزءٍ من هذا البلد، فلا يُعقل أن يُحرَم العدل من تحقيق العدالة التي يناشدها".
وبدورها تضع مصادر محلّية مُطّلعة الإجحاف الفاضح بحقِّ محافظةٍ تأسّست منذ عام 2003 وتُشكّل 22 في المئة من مساحة الأراضي اللبنانيّة، في إطار الإمعان في سياسة حرمان المنطقة من الإنماء، وتتساءل هذه المصادر عن دور نوّاب المنطقة وممثّليها إزاء هكذا قراراتٍ مُشبّعة بالإجحاف والحرمان بحقِّ المنطقة وأهلها.
وتسأل المصادر غامزةً إنْ كان لهذا السكوت الفاضح لممثّلي المنطقة علاقة بـ"طبخةٍ ما، أو بحسابات بيعٍ وشراءٍ في صفقة التشكيلات القضائيّة"، وتُطالِب المعنيّين بالإسراع بإعادة النظر في هذه التشكيلات، لضرورة حضور الأمن والعدل في محافظةٍ تُعاني ما تعانيه من التفلّت الأمنيّ، علماً أنّها تضمُّ عدداً كبيراً من المطلوبين في انتظار البحث بملفّاتهم.