حدثٌ لافت، هو الاعلان عن تجمّع جديد لمستقلين من الشيعة، تحت عنوان "نداء الدولة والمواطنة".
"نداء" يطالب بـ"الدولة المدنية، السيدة، التي تبسط سلطتها بقواها الامنية دون سواها، دولة رعاية لمواطنين أحرار، لا دولة محاصصة لرعايا مستعبدين ."
قوبلت هذه المبادرة إما بما يشبه التخوين من مؤيدي الثنائي الشيعي، "حزب الله" وحركة "أمل"، وإما بما يشبه التخوين ايضاً من أصحاب الاتجاهات العلمانية.
نادرة هي المواقف أو المقالات التي حاولت مقاربة الظاهرة بجدية وبدون خلفية إيديولوجية .
فالظاهرة تستحق الاهتمام لسببين على الاقل .
الأول، لأنها تطلق تياراً معارضاً داخل مذهب، ضاق فيه هامش الاختلاف، بالمقارنة مع المذاهب الأخرى .
الثاني، لأنها ظاهرة "مذهبية" من حيث الانتماءات المذهبية للمشاركين ، وظاهرة "وطنية لاطائفية" من حيث شعارها الأساسي وأطروحاتها، التي سبق لمعظم المشاركين في اللقاء ان تميزوا بها في مواقفهم وانتماءاتهم السياسية .
تساءل البعض لماذا تتكرر هذه المحاولات في المذهب نفسه، على رغم فشلها في السابق. اعتقد ان من الأصح ان نسأل ما هي العوامل الاجتماعية- السياسية التي تجعلها تتكرر، على رغم فشلها؟
تساءل البعض أيضاً عن كيفية التوفيق بين التركيبة المذهبية للجماعة المتحركة وطموحاتها الوطنية.
من الأصح أن نسأل هنا أيضاً، ما هي العوامل الاجتماعية-السياسية التي تجعل من الممكن لظاهرة مجتمعية كهذه، أن تحمل هذا التناقض الظاهري.
أي كيف نفسر سوسيولوجياً هذا التعايش بين "نقيضين" في الواقع اللبناني، بدل أن ندينه مسبقاً وإيديولوجياً؟
لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة بمعزل عن كيفية إدراك المستقلين الشيعة للواقع الذي يتحركون في إطاره.
فالظاهرة لا تُفهم من طريق تحليل "بنيوي" من خارجها فحسب، بل أيضاً من خلال فهم كيفية إدراك هذه البنى على يد الفاعلين في هذه الظاهرة .
ينطلق نص "نداء الدولة والمواطنة" من مسلّمات- اقتناعات، أبرزها:
- الانتخابات هي بداية قيام دولة مدنية قوية وقادرة .
- استمرار التمثيل الشيعي على حاله يجعل كل التقدم على المساحات الأخرى قليل الجدوى.
- التغيير في المساحة الشيعية أساس مفصلي للتغيير في كل لبنان.
- فشل كل محاولات التسوية بين منطق الدولة ولا منطق الدويلة.
الحدث، في تركيبته البشرية ومواقفه، يطرح في اعتقادي أسئلة كبيرة على مستوى علم الاجتماع السياسي وآليات التغيير في المجتمع اللبناني .
الرزمة الأولى من الأسئلة :
التجانس "المذهبي"، هل يمكنه في نظام سياسي معين، أن يلعب دوراً شبيهاً بالتجانس "الطبقي" أو بالتجانس "الجندري"؟
إن العمال وهم يعملون على تحسين أوضاعهم المعيشية، يصلحون في الوقت نفسه في النظام الرأسمالي الذي يحكمه الرأسماليون.
كما أن النساء وهن يعدّلن القوانين التمييزية ضد المرأة، يضربن في الوقت نفسه أسس النظام البطريركي الذكوري الذي يتزعمه الرجل. هل يفترض أصحاب "النداء" أن تحقيق المساواة بين المواطنين الشيعة في التمثيل السياسي، يمكن أن يخلخل في الوقت نفسه نظام المحاصصة الطائفية، وذلك بحكم تصدّر الثنائي الشيعي النفوذ في النظام السياسي الحالي؟
الرزمة الثانية من الأسئلة :
اذا كان تشكل الأحزاب الطائفية - المذهبية جاء نتيجة تفكك نسبي للبنى العشائرية والعائلية، وعلى حسابها، فهل يمكن الانتقال إلى تشكلات سياسية على المستوى الوطني، بدون تفكك ولو نسبي للبنى السياسية الطائفية والمذهبية؟
هل يمكن توقّع إضعاف هذه البنى الأخيرة من دون صراع سياسي معها؟
هل يمكن أن يتم ذلك من خلال أحزاب عابرة للطوائف أو من داخلها، أو من خلال المقاربتين معاً، في ظل نظام انتخابي مذهبي وطائفي؟
إن فهم ظاهرة المعارضة "الشيعية" يمرّ حكماً بمناقشة اقتناعاتها مع الفاعلين فيها .
المطلوب من هؤلاء الفاعلين، هو أكثر من ذلك: التحرر من الحاجة الدائمة إلى تأكيد لاطائفيتهم، هم الذين أثبتوا ذلك بالممارسة في ظروف تتطلب الكثير من الشجاعة.
في المقابل، عليهم الانكباب على التعبير أكثر وبدون حرج، عن خصوصية العلاقات الثقافية- الاجتماعية- الاقتصادية- السياسية التي يعيشونها في بيئتهم المذهبية والوطنية على السواء، والتي تضفي طابعاً خاصاً على تحركهم .
في خضمّ محاولاتنا لفهم الظاهرات الاجتماعية في بلادنا، ننغمس كثيراً في التحليل ونكاد ننسى أحياناً أن وراء الظاهرة أناساً شجعاناً، يواجهون الأخطار في محاولتهم التجمع والتعبير عن رأيهم.
"النداء" نفسه يدعونا جميعاً، "إلى الشروع في بناء الدولة الوطنية، متحررين من الخوف"، وهي معركة تتطلب "الشجاعة والتضحية والعزم على خوضها برغم الصعاب".
إن أي تحليل لمبادرة "النداء" لا يأخذ في الاعتبار هذه العوامل "الذاتية"، سيبقى عاجزا عن تلمس جذورها وأهميتها في ظرفنا الراهن.
غسان صليبي (خبير اجتماعي وكاتب)