بأقل من نصف ساعة في نهاية جولة، أمس، من مناقشة قانون موازنة 2017، حسم مجلس النواب سجالاً مديداً حول دستوريّة إقرار الموازنة العامّة من دون قطع الحساب بحسب ما توجبه المادة 87 من الدستور. حاز مشروع القانون الرامي إلى إضافة مادة إلى مشروع الموازنة تجيز نشرها قبل إقرار قطع الحساب على أصوات 56 نائباً، في مقابل معارضة 11 نائباً من الكتائب والقوات والنائبين نقولا فتوش وبطرس حرب، فيما امتنع النائبان إبراهيم كنعان وعماد الحوت عن التصويت.

كانت جولة المناقشات العمومية قد انتهت، أمس، ليبدأ مجلس النواب بمناقشة مواد مشروع قانون موازنة عام 2017، تمهيداً للتصويت عليها بنداً بنداً. اختار الرئيس نبيه بري أن يبدأ الجولة الثانية مع التصويت على مشروع إضافة المادة المذكورة. اعترض النائب بطرس حرب على ذلك، مشيراً إلى وجوب المباشرة بمناقشة مشروع الموازنة نفسه، إلا أن بري استند إلى نص المادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب، التي تنصّ على أن يبدأ المجلس بإقرار قطع الحساب، ثم يبدأ بإقرار بنود الموازنة، ما يعني أنه اعتبر إضافة هذه المادة بمثابة بديل لإقرار قطع الحساب. كرّر حرب اعتراضه، معتبراً أن ذلك ينطوي على «تعديل ضمني للدستور». ردّ بري: «عم ضيف مادة على مشروع الموازنة مش عم عدّل الدستور». طرح حرب إجراءً شكلياً يقضي بأن يحيل وزير المال مشروع قطع حساب عام 2015 لإقراره بصورة غير نهائيّة ريثما تنتهي وزارة المال من إعادة تكوين كل الحسابات المالية النهائية من عام 1993 إلى اليوم. تبنّى النائب سامي الجميّل طرح حرب، واعتبر أن «التصويت على مشروع إضافة المادة المذكورة هو بمثابة تصويت على مخالفة الدستور». تدخّل رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان ودار سجال بينه وبين الجميّل، إذ رأى كنعان أن اقتراح حرب والجميّل لا يحلّ المعضلة الدستورية والقانونية، إذ إن المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية تفرض أن يوافق ديوان المحاسبة على قطع الحساب قبل إقراره في مجلس النواب. طرح بعض النواب تعديل الدستور عبر قانون دستوري، إلّا أن بري رفض ذلك رفضاً قاطعاً.


قبل هذا السجال، كان وزير المال، علي حسن خليل، قد أقرّ في كلمته بوجود الخلل الدستوري «كيفما تعاطينا مع المسألة»، لكنه رأى أن الخطر الأكبر يكمن في عدم إقرار الموازنة وبقاء الوضع سائباً «بكل ما تعنيه الكلمة». وتعهّد خليل بأن لا يكون هناك أي تسوية على الحسابات، بل محاسبة «مهما كانت الأخطاء صغيرة أو كبيرة». وأقرّ خليل أيضاً بوجود مخالفة أخرى باعتماد القاعدة الاثني عشرية الصالحة لشهر واحد على مدى 12 عاماً، معتبراً أن الإجازة بنشر الموازنة قبل قطع الحساب هو مخرج قانوني وليس قاعدة قانونية!

 

التمادي بالمخالفات الدستورية

إعداد الحسابات المالية منذ عام 1979 لم يراعِ نصوص الدستور والقوانين المرعية. وبحسب تقرير لوزارة الماليّة (المرفق مع مشروع قانون إضافة مادة إلى مشروع الموازنة تجيز نشرها قبل إنجاز الحسابات النهائية للسنوات الماضية)، هناك أسباب عدّة حالت دون التزام هذه النصوص، بحسب المراحل المختلفة، إلا أن معظمها جاء كنتيجة لصرف النظر عن إعداد حساب مهمة المحتسبين المركزيين، وحساب المهمة العام، وقطع حساب الموازنة العامة والموازنات الملحقة. ففي عامي 1991 و1992، أعفيت الإدارة من إعداد الحسابات بحجة فقدان الكثير من بياناتها. علماً أن الوزارة حاولت تكوين حسابات مهمّة المحتسبين لهذين العامين، لكن خلاصة العمل لم تكن مكتملة ولم يوافق عليها ديوان المحاسبة. أمّا بين عامي 1993 و2006، فقد عجزت الوزارة عن إعداد الحسابات نتيجة تصفير الحسابات الماليّة في عام 1993 دون أي مسوغ قانوني، ما أدى إلى غياب ميزان دخول عام 1993 في تراكم حركتها، بحسب ما تؤكّد تقارير ديوان المحاسبة، الذي لم ينظر بعدها في ما بقي من أخطاء ونواقص في هذه الحسابات، ودرج مجلس النواب منذ ذلك الحين على إصدار قوانين قطع حساب من عام 1993 وحتى 2003 غير نهائيّة وغير مصدّقة من ديوان المحاسبة. ومنذ عام 2006 درجت الحكومة على الصرف دون إجازة قانونية.
في عام 2011، باشرت وزارة الماليّة بإعادة تكوين العناصر الأساسية في مديرية الخزينة ومديرية المحاسبة العامة، ومعالجة آثار ترتبت عن مخالفات في مسك القيود أدّت إلى تداخل بعض الحسابات الرئيسيّة والتفصيليّة، ووجود سندات قيد محاسبية غير موقعة أو موقعة من الشخص نفسه كمعد ومدوّن ومدقّق للقيد، والامتناع عن القيام بعمليّة جرد دوريّة للمبالغ العالقة في حسابات الغير ولسلف الخزينة، وعدم التنبه إلى وجود سلف موازنة غير مسددة تعود لسنوات سابقة، عدم فتح حسابات للهبات والقروض، وفتح سنوات ماليّة بعد مرورها لتسجيل نفقات جديدة... وقد تمكنت فرق عمل وزارة الماليّة من إعادة تكوين حسابات عام 1993 ولغاية 2010، وانتهت من إعداد 9 تقارير من أصل 12 تقريراً، وهي التقارير العائدة لحسابات الهبات، سلف الموازنة، سلف الخزينة، حسابات البنوك، قيد مؤقت للنفقات، قيد مؤقت للواردات، حسابات الصندوق، سندات الخزينة وحسابات الأمانات. أما التقارير التي ما زالت قيد الإعداد وعددها 3 فتعود لحسابات القروض، والحوالات، الودائع.

الضرب في الميت حرام

إقرار الموازنة دون إنجاز الحسابات الماليّة النهائية للدولة شكّل الموضوع الأبرز في اليوم الثاني من جلسات مناقشة موازنة عام 2017. أبرز المداخلات تمثّلت بتقديم النائب نقولا فتوش درساً في الدستور يتناول «عدم جواز مناقشة الموازنة بمعزل عن الحسابات، بما يسمح بتمرير عمليات اختلاس وسرقة المال العام دون أي محاسبة»، استند فتوش في كلمته إلى ما «عرضته وزارة الماليّة من مخالفات في أخطاء واردة في الحسابات الماليّة للدولة منذ عام 1993 وحتى اليوم، تتمثّل بعدم تسجيل 92% من الهبات، إعادة فتح حسابات سنوات سابقة وإضافة نفقات جديدة عليها مع ما قد تحمله هذه العمليات من سرقة واختلاس مال عام، عدم أرشفة المستندات الثبوتيّة، عدم وجود سلف خزينة، إلغاء قيود التسوية، وجود إنفاق عالق في قيود النفقات لكونه لم يحصل على إجازة من المجلس النيابي...»، مشيراً إلى أنه «لا يمكن النواب مناقشة الموازنة بصورة منفصلة عن قطع الحساب، لكون النصوص الدستوريّة واضحة (المادتين 83 و87)، وقرار المجلس الدستوري رقم 5 تاريخ 22/9/2017، تفرض إنجاز وإقرار قطع الحساب قبل إقرار الموزانة العامّة، وعلى إدارات الدولة ومؤسّساتها احترام هذه النصوص والقرارات، إذ لا يمكن مجلس النواب مناقشة موازنة من دون حساباتها، لأن الضرب في الميت حرام».

اختلافات عونية

اللافت كان موقف النائب زياد أسود المتمايز عن موقف كتلته النيابية، إذ بدا كأنه يسائل حزبه لا الحكومة في معرض مناقشة الموازنة. ففيما ينظر «التيار الوطني الحر» إلى إقرار الموازنة بالشكل المتفق عليه على أنه «إنجاز» للعهد، وفق ما أشار النائب آلان عون في كلمته رداً على «المزايدات»، ورافضاً توصيف الأمر بـ«التسوية السياسيّة على المال العام، بل اتفاقاً سياسياً لا بدّ منه لإعادة الانتظام إلى الماليّة العامّة ريثما تنجز وزارة الماليّة الحسابات منذ عام 1993»، يقول أسود: «سنقرّ الموازنة، وسنصادق عليها، لكننا لم نصدق القول بالفعل. فهل هذه تسوية أم بداية إصلاح، أهي مساومة أم تصحيح نهج؟ ألا يوجد مسوؤل واحد عن استباحة المال العام لمحاسبته؟ أم إنها الأرواح تعطّل ديوان المحاسبة وتخفي المستندات ولا تنجز الحسابات، وهي الحجّة التي تعفي المجموعة الحاكمة من تحمّل مسؤوليّاتها وإيجاد الحلول». فيما يشير النائب سيمون أبي رميا إلى أن «في عام 2010، خلال جلسة مناقشة الموازنة، أقرّت وزيرة المالية في حينها ريّا الحسن بعدم وجود حسابات للدولة اللبنانيّة، والتزمت إنجازها خلال شهرين. لقد مرّت 7 سنوات ولم تنجز هذه الحسابات. على مدار هذه السنوات أنفقت مبالغ ضخمة دون أي رقابة، عبارة عن هبات بقيمة 6 مليارات دولار لا يعلم بها غير الواهب والموهوب له، قروض بقيمة 24 مليار دولار، وسلفات خزينة بقيمة 128 مليار دولار، سندات خزينة بمعدّل فائدة يتخطّى 45%، فضلاً عن فقدان حوالات صرف ومستندات... وبدلاً من تصويب الأداء المالي، ترد دعوات لتصفير الحسابات أسوة بما حصل في عام 1993، وإقرار الموازنة دون حسابات ماليّة».