لعلّ الإنجاز الوحيد الذي ستخرج به جلسة مناقشة وإقرار «الموازنة المصروفة»، أنّ مداخلات النواب، سواء المنتمون إلى الكتل الممثّلة في الحكومة أو مَن هم خارجَها، شكّلت إضبارات اتّهامية للسلطة الحاكمة على كلّ المستويات، التي قدّمت، وما تزال، نموذجاً صارخاً عن اهتراءٍ إداريّ فاضح، وأداءٍ ملوَّث بالصفقات والمحاصَصات، بحيث تكاد لا تخلو زاوية أو موقع أو حتى تفصيلٌ صغير خاضع لسلطة هذه السلطة، مِن علّة، أو ثغرة، أو خَلل، أو تقصير، أو فساد منقطع النظير يجتاح كلَّ المفاصل بلا حسيب أو رقيب. وفي جانبٍ آخَر، يبدو أنّ المشهد السياسي مرشّح للدخول مجدّداً في سجال على حلبة التباينات الداخلية حول العلاقة مع سوريا، وشرارةُ هذا السجال تُطلِقها زيارة قريبة لوزير التجارة الداخلية السوري عبدالله الغربي إلى بيروت. وعلمت «الجمهورية» أنّ هذه الزيارة تأتي تلبيةً لدعوةٍ من وزير الزراعة غازي زعيتر الذي سيَستقبله في احتفالٍ رسمي عند نقطة المصنع. وأمّا جدول الزيارة فمحدّد بالبحث بين الوزيرَين واللجنة المشتركة في اتّفاقيات تصدير البطاطا اللبنانية إلى سوريا وعبرها، وما يمكن أن يستورده لبنان من سوريا في المجال الزراعي.
مساء أمس، انتهى المهرجان وتوقّفَ السيلان الكلامي الذي أغرقَ قاعة الهيئة العامة لمجلس النواب، بمآخذ وانتقادات على أداء الحكومة واتّهامها بالعجز والتقصير، وانتقلت جلسة مناقشة وإقرار الموازنة إلى الشقّ التشريعي الذي سيبدأ اليوم بدراسة وإقرار المواد القانونية لمشروع الموازنة. حيث جاء هذا الانتقال بعد «مخرج» الوصول إليه حول «قطع الحساب»، وتجلّى بإقرار اقتراح قانون معجّل مكرّر رمى إلى إضافة مادةٍ إلى مشروع الموازنة يُجيز إقرارَها من دون قطعِ حساب.

وقد أعقبَ المناقشات النيابية، ردٌّ من قبَل وزير المال علي حسن خليل، الذي قدّم عرضاً شاملاً للواقع المالي للدولة، أكّد فيه «أنّنا أمام واقعٍ صعب جداً، مشيراً إلى وجود خللٍ دستوري في غياب قطعِ حساب الموازنة، إلّا أنّ الخَلل الأكبر هو عدم إقرار الموازنة، وقال: نحن على مفترق طرق، وقد نواجه تحدّيات كبيرة في السنوات المقبلة، وإمّا أن نصل إلى سيناريوهات قاتلة أو يفتح لنا باب النجاح والنهوض الاقتصادي».

والردّ البارز كان من رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي فنَّد مداخلات النواب، منتقداً المزايدات التي أورَدها بعض النواب، وقال: الناس شبعَت تنظيراً، وأفهم أنّ جلسات مناقشة مشروع الموازنة مناسبة، خصوصاً في سنة انتخابية، لإطلاق مواقف، لكنّ بعضها ضاع بين الموازنة العامة والمزايدة العامّة».

ورفض الحريري «أن يُعطى انطباع بأنّ الحكومة الحالية لا تعمل، معتبراً أنّ البعض يتصرّف وكأنّه اكتشَف اليوم وضعَنا المالي الصعب، وأزمة النزوح ومشكلة الكهرباء»، وأعلنَ «أنّ أهل السُنّة غير محبَطين، وأنا مسؤول عن كلامي، وربّما بعض الزملاء محبَطون وأتمنّى عليهم عدمَ إسقاط إحباطِهم على اللبنانيين». ولفتَ انتباه النواب إلى «أنني لن أفرّط بحقّ لبنان بحماية نفسِه من المخاطر الداهمة، بكلّ المحافل العربية، ولن نعطيَ أيّ فرصة لإغراق لبنان بحرائق المنطقة».

وقد تبعت كلمة الحريري حالةُ هرجٍ ومرج، دفعَت رئيس المجلس نبيه برّي الى وقفِ النقلِ المباشر للجلسة، حيث طلبَ النائب سامي الجميّل سحبَ مشروع الموازنة لمخالفته الدستور، والتصويت على موازنة العام 2018، وأعقبَ ذلك نقاش اتّسَم ببعض الحدّة بين بعض النواب، وكذلك جرَت مساجلات حول موضوع حاكم مصرف لبنان، الذي أثاره النائب جورج عدوان في جلسة الثلثاء.

خلاصة مداخلات الموازنة أنّ النوّاب جلدوا الحكومة، وأعطت مداخلاتهم شهادةً صريحة على دولة مفقودة، وكأنّها خرجت ولم تعُد بعد إلى حيث يفترض أن تكون دولة كاملة المواصفات يَشعر فيها المواطن بأنّه في دولته التي تُظلله برعايتها وتَحميه. وأكّدت بما لا يقبل أدنى شكّ بُطلانَ كلّ الشعارات التي تَبارى أهلُ السلطة على إطلاقها، ووعودهم الوردية للناس بدولة نظيفة يَحكمها القانون والدستور والعدالة والمساواة، وبالنوم على حرير إنجازات تجعل المواطن يأمن إلى غدِه، فإذا به ينام على مخدّةٍ من شوك محشوّةٍ بسلّة ضرائبية تُطيّر النومَ مِن عينِه، ومالَه مِن جيبِه.

مغارة الدبابير

وإذا كان إقرار موازنة السَنة الحاليّة المصروفة سلفاً، يقدّمه أهل السلطة بوصفِه عنواناً جميلاً يؤدّي إلى إعادة انتظام ماليةِ الدولة بعد دزّينةِ سنواتٍ عاشَها لبنان في وضعٍ شاذّ جرّاء غياب الموازنة، إلّا أنّ هذا الانتظام، ورغم الكلام عن توجّهِ الحكومة لإنجاز مشروع موازنة السَنة المقبلة قبل نهاية الشهر الجاري وإحالته الى مجلس النواب، يبقى كبِناءٍ قائم بلا أساسٍ صلبٍ يَسنده ويمنعه من التداعي، والمتمثّل بإقفال تلك المغارة التي تُعشّش فيها دبابير الفساد، ومخالفات فاضحة للقانون، وموصوفة للدستور، ومحاولات الاستئثار بكلّ شيء دون سائر الآخرين، وارتكابات لا حصرَ لها، بالإضافة الى كلّ الموبقات والفوضى على كلّ المستويات، ويَختفي في داخلها مسلسلٌ طويل من الفضائح والصفقات المشبوهة التي تُرهق الخزينة بملايين الدولارات. ومع ذلك تصِرّ الجهات الرسمية المعنية بها على محاولة تمريرها خلافاً للقانون، لا بل تستميت لتمريرها إنفاذاً لتفاهماتٍ سرّية بين جهات سياسية.

صَفقات وتراخيص بالملايين

وتكاد الأمثلة لا تُحصى في هذا المسلسل الذي بدأ منذ زمنٍ طويل وتديرُه طبقةٌ جائعة لا تشبَع؛ مِن قرارات حكومية تُتخَذ فجأةً بمنعِ استيراد سلعٍ معيّنة، وتحصر استيرادَها بفئة معيّنة. ظاهرُ هذه القرارات قانونيّ ومحاولة حماية الإنتاج الوطني، وأمّا باطنُها فيكشف عن منفعةٍ خاصة لهذا النافذ أو شراكةٍ مِن تحت الطاولة مع شركات محظوظة، إلى صفقاتٍ بملايين الدولارات تتردّد على ألسنةِ وزراء ونوّاب وكذلك الناس يُشارك فيها أصحابُ مناصب رفيعة.

ولعلّ الأكثر فضائحية من بينها، تلزيمات لمشاريع «دسمة» للمحسوبين والمقرّبين، وكذلك صفقة حصَلت قبل سنوات قليلة في إحدى الوزارات حول قطاعٍ خدماتي حسّاس، بلغَت قيمة العمولات فيها 85 مليون دولار. وهو رقمٌ حدّده أحد النوّاب لـ«الجمهورية»، دُفِع منها لأحد السياسيين مبلغ 15 مليون دولار لقاءَ سكوتِه على هذا الأمر.

وكذلك فضيحة «تراخيص» عشوائية وغبّ الطلب، متعلّقة بمسألةٍ بيئية حسّاسة حصَلت في تلك الفترة أيضاً، وجنى منها مَن أعطى التراخيص ملايين الدولارات. وبحسبِ المصدر الموثوق الذي كشَف هذه المعلومات لـ«الجمهورية» فإنّ المسؤول المذكور «كان يَرفض الشيكات بالأموال لقاء منحِ الرخصة، بل كان يفضّلها نقداً وبأوراق ماليّة جديدة».

والمثالُ واضح في «صفقة بواخر الكهرباء، التي تعرّضَت لانتكاسةٍ جديدة برفضِها من قبَل إدارة المناقصات. وجديد هذه الصفقة، أنّها ستخضع مجدّداً غداً أمام مجلس الوزراء ليقرّر في شأنها، وسط حديثٍ عن محاولةٍ لعقدِ الصفقة بالتراضي مع الشركة التركية «كارباور شيب».

بري لـ«الجمهورية»

وفيما لوحِظ هجوم «قوّاتي» في جلسة مناقشة الموازنة على هذا الملف، بَرز موقف لرئيس مجلس النواب نبيه بري الذي قال لـ«الجمهورية»: «في الحقيقة أمرٌ محيِّر ما يحصل بالنسبة إلى موضوع البواخر، على حدّ معلوماتي أنّ هناك أكثر من شركة تقدَّمت، فلماذا الإصرار على شركة واحدة، هذا معناه أنّهم لا يريدون أن يقيموا معامل في البرّ، علماً أنّهم تذرّعوا في السابق بأنه لا توجد أمكنة على البر لبناء معامل للكهرباء، ولكنّني شخصياً زوّدتهم بمستندات واضحة تؤكّد وجود هذه الأمكنة ، فلماذا هذا الهروب من البر؟

النفط البحري

وفي ظلّ هذه الذهنية الحاكمة، هناك علاماتُ استفهام حول ملفّ النفط وكيفية إدارته وجعلِه رافداً فعلياً لخزينة الدولة بما ينقِذها من العجز الذي تعانيه، خصوصاً وأنّ رحلة استفادةِ لبنان من ثروته النفطية قد انطلقت الخميس الماضي.

وعلمت «الجمهورية» أنّ تحالفاً وحيداً من ثلاث شركات كبرى هي شركة «نوفاتيك» الروسية، و«توتال» الفرنسية، و«أنِّي» الايطالية قد قدّمت عرضاً للتنقيب عن النفط البحري في الحقل المواجه لمنطقة البترون شمالاً، وفي الحقل رقم 9 في الجنوب. وبدا جليّاً أنّ هذا التحالف تجنّبَ تقديمَ أيّ عرضٍ، لا حول الحقلِ القريب من سوريا أو المشترك معها، لأنه ما زال محلَّ خِلاف، وكذلك حول الحقل رقم 10 المتنازَع عليه مع إسرائيل. وقال بري لـ»الجمهورية»: «الخير في ما وقع، وأهمّية هذا الأمر أنه انطلق».

قاسم لـ«الجمهورية»

إلى ذلك، يفتح إقرار الموازنة في مجلس النواب، السؤالَ عن أولويات المرحلة التي تليه، وثمّة جوابٌ بديهي لدى كلّ المستويات السياسية بضرورة تركيز قواعد العمل المجدي وتفعيل عجَلة الإنتاج. وفي هذا السياق، قال نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم لـ«الجمهورية»: «لا شكّ في أنّ الحكومة، هي حكومة محاصَصة، لأنّ تركيبتها فيها الأطرافُ المتنوّعة التي تراعي بعضها في التعيينات وكلِّ التفاصيل الأخرى. والسؤال المطروح، كيف تخرج الحكومة من المحاصَصة؟ لا أعلم متى يكون الجواب عليه دقيقاً وصحيحاً في هذه الحكومة وفي الحكومات المقبلة».

أضاف: «المهمّ هو أن تكون المشاريع الوطنية محلَّ اهتمام خارج المحاصَصة، كقضايا الكهرباء والمياه والنفايات وتوفير فرَصِ العمل ومعالجة قضية النزوح وغيرها من القضايا الوطنية.

فالمطلوب من الحكومة أن تكون أكثرَ نشاطاً وأن تتصرّف في كلّ الملفات على قاعدة أنّها حكومة لديها الوقت الكافي لتنجزَ وتتقدّم، وأنّها ليست حكومة تصريف أعمال. وما حصَل من إقرار بعض التعيينات والمشاريع دليل على وجود قدرة لهذه الحكومة، ولا نُغفل أنها حقّقت بعضَ الإنجازات وساهمت في جوّ الاستقرار السياسي والأمني، لكنّ المطلوب هو التفعيل والتسريع مع عدمِ التسرّع وأن تكون هناك مرونة في بعض الملفّات».

يوسف

ورأى عضو كتلة «المستقبل» النائب غازي يوسف «أنّ الأولوية لا يجب أن تكون للتعيينات والتسويات والاتفاقات، بل للحالة الاقتصادية».
وقال لـ«الجمهورية»: «الحكومة غير قادرة على مساعدة الاقتصاد من خلال مشاريع تحاول تمويلَها، لافتقادها القدرةَ على ذلك، لذا يجب الاعتماد على القطاع الخاص، ولفِعل ذلك لا نستطيع أن نكون اعتباطيين في طريقة مقاربتِنا للضرائب والرسوم والجباية. فالاقتصاد هو الأساس ونتمنّى أن تكون الحكومة قد تلقّفت جيّداً هذه الرسالة المهمّة اليوم».

وإذ أشار إلى تعيين المجلس الاقتصادي والاجتماعي، دعا «إلى عدم تضييع الوقت في كيفية تعيينِ فلان أو علتان، بل الاهتمام بأمور الناس الحياتية». كذلك دعا إلى التوقّفِ عن إدخال مستخدَمين وموظّفين جُدد. ونوَّه بأهمّية التنقيب عن النفط، داعياً إلى إيجاد حلول دائمة لأزمة الكهرباء».

الحوت

وقال نائب «الجماعة الإسلامية» عماد الحوت لـ«الجمهورية»: «الأولوية الآن هي للتركيز على موضوع الهدر وحجم انتظام الدولة لناحية الفساد وناحية التوظيفات. فالواقع الاقتصادي في غاية السوء وبالتالي لم يعُد هناك مجال للإهمال في هذا الموضوع».

وشدّد على «أنّ انتظام إدارة الدولة، ينبغي أن يتواكب بالشفافية في الإجراءات والتوظيفات والمناقصات لكي نستطيعَ الوقوف على أقدامنا مجدّداً».
أضاف: «أمّا في السياسة، فحسابات الانتخابات تطغى على كلّ شيء، وعلى الكلّ، وبالتالي سنَدخل في مناخ مزايدات سياسية، بينما في الواقع هناك ثنائية ما زالت تَحكم المسارَ السياسي للحكومة، ولكنّ كلّ الفرقاء الآن سيَدخلون لعبة المزايدات تحت ضغطِ الانتخابات، وبالتالي أنا لا أشعر بوجود خطر على الحكومة ولا على الواقع السياسي العام».