إيران التي طالتها عقوبات دولية منذ عام 2006، نجحت في الالتفاف عليها وتطوير برنامجها النووي وبناء قدرات عسكرية والاستمرار في التوسع في الإقليم وزعزعة الاستقرار فيه
 

مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة مخصصة للشأن الإيراني، يتبنى سيد البيت الأبيض مقاربة أكثر تشددا تشمل عدم التصديق على الاتفاق النووي ومواجهة الأنشطة الإيرانية المختلفة وأبرزها تطوير الصواريخ الباليستية ودعم الإرهاب والتدخل في المنطقة.

ويعكس ذلك عمليا تركيز الإدارة الحالية على تصرفات إيران وسلوكها الإقليمي وهو ما كان يتجاهله فريق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

بيد أنه بالرغم من هذا التحول النسبي نلاحظ الكثير من التكرار في التهويل من جانب الطرفين والاكتفاء باللعب على رقعة الشطرنج الإقليمية مع تجنب المجابهة المباشرة إلا نادرا.

وهكذا فإن “الفيلم الأميركي” أو المسلسل الطويل بين واشنطن وطهران والمستمر فصولا منذ 1979، أخذ يصبح مملا حسب بعض المراقبين، ويشبه حكاية إبريق الزيت التي تكررها الجدات على مسامع الصغار.

وسيكون اختبار القوة المرتسم الملامح منعطفا حساسا ضمن مخاض صراعات الإقليم، فإما أن يشكل فرصة لتحجيم إيران ولجم مشروعها الإمبراطوري، وإما أن يكون مجرد عاصفة جديدة في فنجان تدعم النظام الإيراني بدل إضعافه.

بعد تسعة أشهر على بدء ولايته، يجد الرئيس الأميركي نفسه ملزما بتحديد موقفه من الاتفاق النووي الإيراني الذي يتوجب أن يصادق عليه كل ثلاثة أشهر. وحسب التسريبات من الكونغرس فلن يمزق ترامب الاتفاق كما كـان يهدد أثناء حملته الانتخابية، وذلك لعدم وجود توافق داخل إدارته والمؤسسات ولتفادي الانفراد في الانسحاب والخلاف مع الحلفاء الأوروبيين.

ومن هنا بدل الاستمرار أو الانسحاب، جرى اختيار الطريق الثالث أي الاكتفاء بعدم التصديق على الاتفاق وإحالته إلى الكونغرس ليكون سيد نفسه ويشاركه في قرارات مصيرية، ربما يكون أبرزها إدراج الحرس الثوري الإيراني على اللائحة الأميركية السوداء للمنظمات الإرهابية. والملفت في الأمر إن إدراج الكيانات أو الأشخاص على اللائحة المذكورة من قبل وزارة الخارجية ليس له نفس تأثير قيام الكونغرس بهذه الخطوة.

تندرج الإجراءات الأميركية الجديدة في سياق عـودة واضحة إلى الصفحة التي حاول الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أن يطويها. بالـرغم من اللهجة العالية للرئيس تـرامب، لا يعدّ موقفه استثناء إذ كانت العلاقات الإيرانية- الأميركية محور اهتمام من توالى على البيت الأبيض منذ عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر.

بالطبع، لا ينكر الساسة أو أصحاب القرار في واشنطن أهمية إيران كدولة أو كنظام سياسي ومشروع إقليمي، وكذلك جل ما يتمنى من يحيك سجادة القرارات الإيرانية التوصل مع الأميركيين إلى تفاهمات تراعي مصالحهم.

لكن انعدام الثقة والتناقضات في الملفات الإقليمية والنزاعات بين إيران وحلفاء واشنطن، أضاعت الكثير من الفرص بسبب مواقف أيديولوجية مسبقة مثل وصية الإمام الخميني التي تحرم المصالحة مع واشنطن، أو بسبب غياب سياسة أميركية واضحة تجاه إيران في الكثير من الفترات.

والأهم أن طهران استفادت من الحربين الأميركيتين في العراق وأفغانستان اللتين أتاحتا لها التخلص من أعتى أعدائها، ومما لا شك فيه أن إيران التي طالتها عقوبات دولية منذ العام 2006، نجحت في الالتفاف عليها وتطوير برنامجها النووي وبناء قدرات عسكرية والاستمرار في التوسع في الإقليم وزعزعة الاستقرار فيه.

في تجاوز لرهان الإدارة السابقة على الاتفاق النووي مع إيران، كمدخل إلزامي للاستقرار الإقليمي وربما للشراكة مع طهران، نلـمح في المقاربة الشاملة لفريق ترامب سعيا لتشديد الضغط في كل الملفات.

وهذا لا يعني قطيعة في السياسة الأميركية لأن إيران لم تلعب اللعبة كما تصور فريق أوباما، بل انتقلت بعد توقيع اتفاق فيينا في يوليو 2015 إلى اللعب على حلبة الملاكمة والاستمرار في التوغل الإقليمي مستفيدة من رفع العقوبات والهرولة الدولية لعقد الصفقات معها.

من هنا تركز الاستراتيجية الأميركية الجديدة على الداخل الإيراني وتدين عدم احترام حقوق الإنسان وعمليات الإعدام المتزايدة، وتصل إلى حدّ المطالبة برفع الإقامة الجبرية عن معارضين وأبرزهم حسـين مير موسوي وكروبي (أرباب انتفـاضة العـام 2009).

ومع أن الـرئيس حسن روحـاني حذر من فـرض العقـوبات على الحرس الثوري حتى لا يبدو وكأن واشنطن تسانده أو تتدخل في معركة خلافة المرشد الأعلى الإمام علي خامنئي.

بيد أن الأوساط الأميركية المعنية تربط تطبيقات المقاربة الجديدة بتطور الوضع الإيراني الداخلي، حيث أن ما لم ينتجه الاتفاق النووي من تغيير إيجـابي يمكن أن يحصل هـذه المرة، لأن المجتمع الإيراني أصبح أكثر جاهزية وزادت معاناته من المغامرات الخارجية.

ترد إيران من جهتها على تصعيد ترامب عبر التبشير بعزلته الدولية، وتتصور أن بإمكانها اللعب على التناقضات واختلاف المصالح بين واشنطن والأوروبيين. لكن تجميد الاتفاق لوحده لن تكون له انعكاسات تلقائية، وسيختلف التقييم في حال فرض عقوبات جديدة أو تشديد بعض العقوبات.

وبالرغم من طبيعة الاتفاق الدولية والجماعية، فمن الواضح أنه كان يغلف ترتيبا ثنائيا بين واشنطن وطهران لم يصمد أمام عامل الوقت وأمام القراءة الخاطئة أو المتفائلة من قبل طهران للمشهد السياسي الأميركي.

ضمن الرسائل المشفرة الموجهة لطهران، تخوّل الاستراتيجية الأميركية الجديدة الرد بقوة أشدّ على استفزازات الزوارق الإيرانية ضد السفن الأميركية في الخليج العربي، وتعزيز عمليات الاعتراض الأميركية لشحنات الأسلحة الإيرانية، مثل تلك المتجهة إلى المسلحين الحوثيين في اليمن، والجماعات الفلسطينية في غزة، وإلى شبه جزيرة سيناء.

إن المواجهة المتـوقعة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران ضمن المعطيات السابقة، ستدور ضمن حدود لجم وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن تلويح المقاربـة بجعل ماهية وبنية النظـام السيـاسي في إيران من الأهداف الأميركية، يبتغي على الأرجح تعديل سلوك إيران واحتواءها.

من طهران إلى بيونغ يانغ يجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه في مواجهة محمومة تتأجج على صفيح ساخن في مجمل الشرق الأوسط.


د. خطار أبودياب