يعترف كل العالم تقريبا بأن النظام الإيراني مسبب رئيسي للصراعات التي تأبى أن تخمد نيرانها في منطقة الشرق الأوسط، وأيضا سبب في اضطرابات وتهديدات تمتد من عمق أفريقيا إلى أميركا اللاتينية. لكن، هناك قناعة أيضا أن أسلوب الردع التقليدي لم يعد يجدي نفعا بعد أن فتح الاتفاق النووي الباب أمام إيران “الدولة المارقة” لتدخل المجتمع الدولي كـ”حليف”. يتجلى ذلك بوضوح من خلال الجدل الدائر بين إدارة الرئيس ترامب والفريق الراغب في معاقبة إيران إلى حد “تمزيق” الاتفاق النووي وتصنيف الحرس الثوري تنظيما إرهابيا، وفريق رافض لذلك، ويجمع مسؤولين أميركيين والمجموعة الأوروبية. ويرى هذا الفريق، ومعه إسرئيل ودول عربية كانت رافضة للصفقة النووية، أن إلغاءه يخدم إيران، فيما يبرر رفضه لتصنيف الحرس الثوري الإيراني بأن إضافة تصنيف إرهابي للحرس الثوري لن تردع أي نشاطله، لكن سيزيد من التحديات
 

وصل التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى مرحلة حرجة، بعد التهديدات التي وجهها قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري لواشنطن، في 8 أكتوبر الجاري، بإبعاد قواعدها في المنطقة لمسافة 2000 كيلو متر، وهو المدى الذي تصل إليه الصواريخ الباليستية الإيرانية، في حالة إدراج الباسدران على قائمة التنظيمات الإرهابية.

لم تتوان حكومة حسن روحاني عن الدخول على خط المواجهة بين واشنطن والحرس الثوري من خلال تأكيد المتحدث باسم وزارة الخارجية بهرام قاسم، بعد ذلك بيوم واحد، على أن رد إيران على هذه الخطوة سيكون حاسما وساحقا. وهو ما توازى مع تأييد مجلس الشورى الإسلامي، ولا سيما لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي، للإجراءات التي يمكن أن يتخذها الباسدران للتعامل مع هذا القرار المحتمل من جانب واشنطن.

اتجاه إيران إلى رفع مستوى تهديداتها ضد الولايات المتحدة يعود إلى اعتبارين: يتمثل أولهما في أن تلك الخطوة معناها أن الأخيرة تسعى إلى وضع المزيد من العقبات أمام استمرار العمل بالاتفاق النووي، بشكل يمكن، في رؤيتها، أن يدفع إيران نفسها إلى اتخاذ قرار بالانسحاب منه أو على الأقل تجميد العمل به في الوقت الحالي، ويعفيها هي من تحمل المسؤولية الدولية الناجمة عن ذلك.

وتحاول واشنطن من خلال هذه الخطوة تصدير الأزمة إلى إيران وإلقاء الكرة في ملعبها، ومن ثم توفير فرصة ثمينة للتيار المتشدد داخل مؤسسات النظام الإيراني الذي يرفض الصفقة النووية من أجل الدعوة إلى إعادة تنشيط البرنامج النووي من جديد.

وهنا، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسعى من خلال ذلك إلى احتواء الضغوط التي يتعرض لها من جانب بعض القوى الدولية المعنية باستمرار العمل بالاتفاق، مثل بريطانيا التي أكدت رئيسة وزرائها تيريزا ماي في اتصال هاتفي معه، في 11 أكتوبر 2017، على أن الاتفاق ذو أهمية حيوية للأمن الإقليمي.

كما أنه يحاول دعم موقفه في مواجهة معارضة بعض أركان إدارته لسياسته تجاه الاتفاق، على غرار وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي تبنى الموقف نفسه تقريبا مبررا ذلك بأن الاتفاق يصب في صالح الولايات المتحدة، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي سبق أن أقر في اجتماع وزراء خارجية إيران ومجموعة 5+1 بنيويورك في 20 سبتمبر 2017، بأن إيران ملتزمة بالاتفاق على المستوى التقني.

وينصرف ثانيهما إلى أن إيران باتت ترى أن الإدارة الأميركية مصرة على توسيع نطاق خلافاتها معها لتتجاوز إلى حد كبير الاتفاق النووي وتمتد إلى الملفات الأخرى غير النووية، على غرار الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة، الذي بات محور اهتمام الإدارة منذ توليها مهامها في 20 يناير الماضي.

ويمثل الحرس الثوري العنوان الرئيسي لهذه الخلافات، باعتبار أنه المسؤول عن أنشطة إيران في الخارج، خاصة في ما يتعلق بدعم حلفائها وتكوين وتدريب وتمويل ميليشيات إرهابية عديدة لحماية مصالحها في مناطق بعيدة عن حدودها.

لذلك ترى طهران أن إدراج الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية يشير إلى أن واشنطن سوف تتجه في الفترة القادمة إلى رفع مستوى العقوبات التي تفرضها على الحرس إلى مستوى غير مسبوق.

وقد تشمل العقوبات المؤسسات الاقتصادية التابعة للباسدران وربما تؤثر على عدد ضخم من العاملين فيها، بشكل يمكن أن يفرض تداعيات وخيمة على المصالح الاقتصادية للباسدران داخل إيران وخارجها، وعلى القطاعات الرئيسية في الدولة، في ظل النفوذ الواسع الذي يحظى به الحرس الثوري.

وربما تتطرق واشنطن إلى خيارات أخرى في التعامل مع التهديدات التي تفرضها أنشطة إيران في الخارج، منها توجيه ضربات عسكرية سواء للحرس أو للميليشيات الإرهابية التابعة له، خاصة أن تصنيف الحرس كمنظمة إرهابية معناه أن التعامل معه في المرحلة القادمة سيتم وفقا للنهج نفسه الذي يتبع مع التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل داعش والقاعدة.

وما يضفي وجاهة خاصة على تلك الرؤية داخل طهران هو أن هذا الاتجاه الأميركي المحتمل يتوازى مع تصاعد حدة الضغوط التي تمارسها واشنطن على حلفاء إيران، خاصة حزب الله، الذي قال منسق الأمن الداخلي في البيت الأبيض توم بوسارت، في 11 أكتوبر 2017، إنه يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي.

لكن رغم أن التهديدات التي أطلقها الحرس الثوري والحكومة الإيرانية وصلت إلى مستوى غير مسبوق، بشكل دفع البعض إلى ترجيح أن طهران تحاول استيعاب دروس من التصعيد الحالي بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، عبر تبني النهج نفسه الذي تعاملت به الأخيرة مع الإجراءات الأميركية، إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران لا تمتلك مروحة خيارات واسعة لتحويل هذه التهديدات إلى خطوات إجرائية على الأرض.

إذ تبدو إيران حريصة باستمرار على تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع القوى المناوئة لبرنامجها النووي ودورها الإقليمي، بما يعني أن أحد أسباب قبولها بهذه الصفقة يكمن في إضعاف احتمالات دخولها في حرب مع واشنطن.

ويتمثل البديل إذن في إفساح المجال أمام الميليشيات الإرهابية الموالية لها من أجل حماية مصالحها، أو الرد على أي خطوات عسكرية قد تقدم عليها واشنطن خلال المرحلة القادمة.

والمفارقة هنا، أنه يمكن قراءة هذه التهديدات الإيرانية بطريقة أخرى، وذلك باعتبارها محاولة من جانب طهران لإثناء الإدارة الأميركية عن اتخاذ خطوات من شأنها تعزيز احتمالات انسحابها من الاتفاق النووي، أو على الأقل التأثير على استمرار تطبيقه خلال المرحلة القادمة. ولا تريد إيران رغم كل تحفظات قيادتها ومؤسساتها الراديكالية على الاتفاق الاستغناء عنه والعودة إلى تنشيط برنامجها النووي من جديد، إذ أن ذلك من شأنه إيقاف سيل من الأموال وسيعرضها لعقوبات دولية جديدة.

وهنا، فإن إيران تعول على أن تلك التهديدات التي وجهتها يمكن أن تدفع مسؤولين في الإدارة الأميركية إلى ممارسة ضغوط من أجل استبعاد تلك الخطوة أو على الأقل تأجيلها. وحدث ذلك بالفعل في فبراير 2017، وبعد شهر واحد من وصول ترامب إلى البيت الأبيض، عندما فضلت الإدارة تأجيل الخطوة نفسها بعد تحذيرات مسؤولين في وزارة الدفاع والاستخبارات الأميركية من التداعيات السلبية التي يمكن أن تؤثر على الحرب ضد تنظيم داعش.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن مرحلة جديدة من التصعيد بدأت بين واشنطن وطهران قد تكون مفتوحة على أكثر من مسار، خاصة بعد أن وصلت الخلافات إلى الحرس الثوري، الذي تعول عليه إيران في دعم تمددها الإقليمي وطموحاتها النووية.