هي واحدة من القصص التي تدمي القلوب والعيون، هي قصّة فتاة تدفع ثمن خطأ أو تسرّع من أهلها لتأتي إلى الحياة بلا أية ورقة تثبت وجودها أو كيانها. هي قصّة الفتاة شذا نيكولا بايلوك (18 عاماً) والدها من جنوب السودان وأمّها لبنانية من طرابلس، أتت إلى هذا العالم من حيث لا تدري، وبدأت تكبر وتكبر حتّى وجدت نفسها أمام حقيقة مرّة، وهي أنّها "غير موجودة"، فلا هوية ولا وثيقة ولادة ولا ورقة تعرّف عنها.
"شذا" واحدة من حوالي 10 ملايين حالة شبيهة لها بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، هي إنسان يعيش وكأنّه مجرّد شبح أو ظل، "ماعندي لا أوراق ولا شي يعرّف عنّي، يعني إذا متت ما حدا بيعرف عنّي شي، درس ما درست ولا مدرسة قبلتني لأن ما معي شي، حتّى ما فيني أتزوَّج، مين بيقبل بوحد متلي بلا هوية؟"، بهذه الكلمات أطلقت شذا صرختها عبر "لبنان 24" آملة في أن تجد لها صدى لدى المعنيين في الدّولة.
تسأل شذا بحسرة: "ليش لازم ننظلم نحنا بسبب غلطة أهلنا؟ نحنا ضحيّة"، وتضيف: "بحلم عيش متلي متل غيري بس للأسف ما فيني إعمل شي لأنّو ما معي هوية أو أي شي يثبت عنّي".
فقد انفصل والداها وكانت بسنٍّ صغيرة، وقد تمّ ترحيل والدها من قبل الأمن العام إلى السودان آنذاك، قبل تقسيمه، فيما لم يكن بعد قد استصدر لها وثيقة ولادة على الأقلّ تؤكّد رسمياً أنّها باتت موجودة ككيان في هذا العالم.
المفارقة "المضحكة المبكية" في قضية شذا تكمن في أنّها حين حاولت مع والدتها متابعة وضعها مع السفارة السودانية في بيروت منذ مدّة، كان الجواب أنّ السفارة السودانية هنا غير معنية بقضيّتها لأنّ والدها لم يعد من السودان، بل هو من جنوب السودان، ولا توجد سفارة لهذه الدّولة في لبنان، واقترحوا عليها الذهاب إلى سفارة جنوب السودان في مصر، وهي مسألة مستحيلة، "أنا ما فيني إمشي بالطريق لأنّو ما معي وراق، كيف بدن ياني سافر على مصر ومنها إلى السودان؟"، تسأل باستغراب.
وهنا تكمن المعضلة، فلنا أن نتخيّل كيف أن مأساة شذا تبدأ من تقسيم السودان، ولا تنتهي في القوانين اللبنانية التي لا تسمح للمرأة اللبنانية بمنح الجنسية لأولادها.
لا تطلب شذا الشيء الكثير من الدّولة، فهي تعلم أنّها لن تحصل على حقّها بالجنسية اللبنانية كونها من أب غير لبناني، "لكن كلُّ ما أريده أن يعترفوا بي، فأنا لا أستطيع أن أتحرّك حتّى"، بحسب تعبيرها، كما تناشد كلّ من يستطيع التأثير والمساعدة ألا يقصّر.
قناة BBC كانت عرضت في وقت سابق فيلماً وثائقياً لقضية تشبه تماماً قضية شذا، لشابة تدعى مها مامو، ولدت لوالدين سوريّين من طائفتين مختلفتين، وبحسب قوانين بلدها فإنّ الزواج المختلط غير معترف به رسمياً، وبالتالي هي ليست سورية، وعلى الرغم من أنّها ولدت على الأراضي اللبنانية فالأمر سيّان، لأنّ لبنان لا يمنح الجنسية أيضاً لم يولد على أراضيه من غير اللبنانيين. فوجدت الحلّ في بلد بعيد جداً وهو دولة البرازيل التي تجاوبت مع قضيتها لا لكونها بلا أوراق، بل بسبب الأزمة السورية.
وهل قدر هؤلاء الذين قست عليهم الحياة بدون أن يرتكبوا ذنباً واحداً أن يكون التهجير قدرهم حتى يولدوا فعلياً ويعترف بهم؟!