يدرك اللبنانيون في وعيهم العميق أن الدولة السورية ليست مجرد دولة جارة فحسب، بل ثمّة عوامل جغرافية وتاريخية واجتماعية تدخل في عمق العلاقة بين الدولتين والشعبين، وتفرض نوعا من العلاقات الخاصة التي تتجاوز البعد السياسي المباشر، إلى ما هو أعمق وأكثر رسوخا وتأثيرا.
الجغرافيا هي التي جعلت لبنان محكوماً بحدود برية مع سوريا وحدها في ظلّ العداء مع إسرائيل، ولبنان لا يمكن له إلا أن يكون على علاقة طبيعية مع هذه الدولة الجارة التي تشكل معبراً وممراً إلزامياً نحو محيطه العربي، وإلى هذا العامل فسوريا منذ نشأة الدولة اللبنانية في العام 1920 لم يكن العديد من اللبنانيين مؤمناً بهذه الدولة، بل نشأ تيار سياسي وفكري التقى مع أصوات سورية تعتبر لبنان جزءا من سوريا، وأقيمت مؤتمرات لبنانية كان طابع هويتها الإسلامية هو الغالب كما حصل في مؤتمر وادي الحجير الشهير الذي أعلن فيه رموز الشيعة في جبل عامل انضمامهم للثورة العربية عشية الانتداب الفرنسي، ومؤتمر الساحل الذي عقد عام 1936 وكانت الهوية الإسلامية السنية غالبة على المشاركين فيه والذين دعوا إلى انضمام لبنان إلى سوريا.
لم تنجح هذه المحاولات فيما كانت الدولة اللبنانية تترسخ عبر المؤسسات التي أنشأها الانتداب الفرنسي، وكانت سوريا في ذلك الحين أيضاً تتشكل هويتها الوطنية في ظل الحدود الجديدة التي توافق عليها الانتدابان الفرنسي والبريطاني في ذلك الحين.
مرد هذا التقديم هو الإشارة إلى التداخل العميق في الجغرافيا وفي الديموغرافيا بين الشعبين، فالارتباط التاريخي لأبناء البقاع (المنطقة المحاذية لسوريا من جهة الشرق) وهم في غالبيتهم من الشيعة هو مع الجار السوري ومع دمشق كمركز تجاري وسياسي، وكذا الحال في شمال لبنان ذي الغالبية السنية إلى حد أنّ طرابلس اللبنانية تسمى حتى اليوم بطرابلس الشام في إشارة إلى الارتباط الثقافي والاقتصادي بسوريا، وليس الحال مختلفاً في جنوب لبنان الذي كان سهل حوران السوري يحتضن آلاف الجنوبيين.
لم تستطع الحدود بين دولتي لبنان وسوريا أن تؤثر في هذه العلاقات العميقة، لا في ظلّ الانتداب الفرنسي ولا في عهود الاستقلال في البلدين بحيث ظلت دمشق لأبناء هذه المناطق عاصمة يتوجهون إليها للتبضع وللسياحة بعدما كانت قبلة للتعليم والطبابة والتجارة وغير ذلك.
نظام البعث برئاسة حافظ الأسد ثم بشار الأسد، حدّ من هذا الترابط بسبب طبيعة النظام الذي اتسم بالحساسية الأمنية المفرطة وبالبطش باللبنانيين والسوريين عموماً، لكن ظلت النظرة إلى سوريا باعتبارها دولة تعاني من نظام ظالم كما يعاني اللبنانيون منه.
الذي استجد في العلاقة بين البلدين بعد انفجار الثورة السورية عام 2011 ليس أزمة النازحين السوريين إلى لبنان رغم أهميتها وأثقالها على الاقتصاد اللبناني المنهك.
المفصل النوعي في تاريخ العلاقة بين البلدين كان تورط حزب الله في قتال السوريين دفاعاً عن نظام الأسد، حيث انخرط حزب الله في أكبر عملية تهجير شهدتها منطقة القلمون المحاذية للحدود مع لبنان، وتورط في مواجهات طالت بالدرجة الأولى البيئة الاجتماعية ذات الصلة التاريخية مع لبنان، وساهم هذا القتال بإحداث شرخ يصعب التئامه بل ينذر بمخاطر مستقبلية تهدد لبنان عموماً والمكون الشيعي على وجه التحديد.
غامر حزب الله بكل العلاقات المجتمعية التي تراكمت عبر التاريخ، ووضع نفسه أمام خطر مستمر وقنبلة قابلة للانفجار في أي تحول استراتيجي في موازين القوى، بل يمكن القول إن ما ارتكبه في سوريا سيظل عنصرا إشكاليا في علاقة الدولتين، ذلك أن لبنان الذي كان يشكو من سطوة النظام السوري وتدخلاته في الشأن اللبناني منذ تأسس، سيجد نفسه في المستقبل أمام معضلة الإجابة عن دور حزب لبناني في التدخل في الشأن السوري وضمانة عدم حصوله في المستقبل، بل سيشكل هذا الواقع مدخلا لتوتر العلاقة بين الدولتين أيا كان النظام الذي يحكم سوريا مستقبلا.
الوضعية التي يجد اللبنانيون أنفسهم فيها هي أن حزب الله أدخلهم في مأزق، فلا هم قادرون على تحمل الأثقال التي أرغمهم على حملها، ولا هم قادرون على لجم تورطه في إعادة رسم الديموغرافيا والجغرافيا السورية التي يدركون أنها مخالفة لتاريخ المنطقة ولوقائع لا قدرة له على تغييرها.
اللبنانيون أمام استحقاق مهم وهم يرون كيف تحول لبنان إلى شبه دولة، بلد يفتقد شروط الدستور والقانون، يستنزف اقتصاده وماليته العامة من دون أيّ أفق واعد بوقف الهدر والفساد، بل ينذر بالمزيد من الانهيار.
التورط في الحرب السورية بات يهدد لبنان، لأن معادلة التدخل في سوريا ضرب حزب الله من خلالها الدولة وأطاح بالدستور وتجاوز القوانين، عمد هو نفسه إلى فتح أكبر مزاد علني على الفساد والنهب العام وضرب المؤسسات الدستورية والسلطة القضائية، هو شجع وشارك في هذا السلوك بناء على إستراتيجية مفادها أن وضعية حزب الله الأيديولوجية والعسكرية لا يمكن أن تستمر إلا بالمزيد من ضعف الدولة وتراجع الثقة في مؤسساتها بقضائها وأمنها وسياساتها الاجتماعية والاقتصادية، هذا الانهيار للدولة هو الأكسيجين الذي يبقيه متفلتا من شروط الدولة.
عامل آخر يسعى حزب الله إلى ترسيخه وهو جدار الخوف الذي أعلى بناءه، بحيث أنّه نجح إلى حد بعيد من خلال ما ارتكبه في سوريا في جعل الخوف مسيطرا على بيئته التي باتت تدرك بالحق أو بغيره أنّها أمام خطر كبير فيما لو فقدت حزب الله.
فحزب الله بما قام به في سوريا جعل أي مواطن عادي، والشيعة خاصة، يشعر في ظل غياب الدولة أو ضعفها ومع تفوق الحزب اليوم عسكريا أمام خيار المزيد من التمسك به.
في هذا المناخ السياسي الذي ينذر بالمزيد من تصدع الدولة اللبنانية، ومع التسليم اللبناني بأنّ حزب الله ليس في وارد التراجع الطوعي إلى حضن الدولة، ووسط كل التهديدات التي تحيط بلبنان داخليا وخارجيا، قام نحو خمسين شخصية من النخب الشيعية اللبنانية السياسية والدينية والعلمانية ومن العائلات التقليدية بإطلاق نداء “الدولة والمواطنة” من بيروت، وهو نداء يتسم بالجرأة في الإشارة إلى المخاطر التي تهدد لبنان والطائفة الشيعية على وجه الخصوص، بسبب ضعف الدولة وانتصار الدويلة التي يمثلها حزب الله على الدولة.
هذا النداء يستكمل ومواقف عدة برزت من وجوه شيعية ضد تورط حزب الله في سوريا، ووقفت مع الشعب السوري ضد ارتكابات نظام الأسد وحلفائه ولعل بيان العالمين الراحل هاني فحص ومحمد حسن الأمين في العام 2012 محطة مهمة وأساسية في هذا الطريق، فيما كانت للشيخ صبحي الطفيلي مواقف كان في قمتها اعتبار أن من يسقط من اللبنانيين المسلمين في مواجهة الشعب السوري ومعارضته ليس شهيدا.
لقاء الدولة والمواطنة لم يكن نداء مقتصرا على الجانب السوري وتداعياته على لبنان بعد تدخل حزب الله، بل توجه إلى كل اللبنانيين من أجل الدفاع عن الدولة وعن سيادتها، ومد اليد إليهم انطلاقا من أن ثمة صـوتا شيعيا لبنانيا يدعوهم للتحرك من أجل العيش تحت سقف الدولة، وضمن شروطها.