في التداول والنقاش اللذين أنتجهما الاستفتاء والاستقلال الكردي، وعلى المستويين العراقي والإقليمي، ثمة خطابان متناقضان يصدران عن الحنجرة ذاتها: يقول الأول، على حياء ومرارة، إنه يحترم حق الكرد في تقرير مصيرهم ومستقبلهم. فيما الصوت الثاني يجلجل متوعداً بسحق نتائج الاستفتاء والساعين المفترضين للاستقلال مستقبلاً.
ثمة ما هو تراجيدي في تلازم هاتين النزعتين في طرف أو حزب سياسي واحد. فتلك الأطراف لا تستطيع أن تظهر إباحية قوميّة عصبويّة مطلقة في نكران الحق السلمي الديموقراطي لجماعة أهليّة تعدادها عشرات الملايين، ولا يمكنها في نفس الوقت أن تتقبل وتعلن اعترافها السياسي الواضح بهذه الحقيقة «المرة»!.
بالمعنى السياسي- التاريخي، فإن جميع النزاعات القوميّة التي ارتكزت عليها دول منطقتنا، كانت طوال القرن العشرين متوافقة في ما بينها على نكران الوجود القومي الكردي، صارت تعاني من تفاقم الوجود السياسي الكردي بأشكال كثيرة، في داخلها وفي جوارها، وهو ما نتج عن تضافر ثلاث ديناميات متراكبة:
تتمثل الأولى في النمو الديموغرافي الهائل للكرد طوال القرن العشرين، في الدول الأربع التي يعيشون بها. فقد سمح سوء التنمية الاقتصادية والاستبعاد السياسي الذي فرض على المجتمع الكردي في تلك الدول، أن تبقى مناطقهم ريفية للغاية، وأن لا تتطور بمستوى باقي مناطق ومجتمعات هذه الدول ذاته. دفع ذلك إلى محافظة الكرد على نمو سكاني شبه ثابت، فيما كانت تتراجع نسبة الزيادة السكانيّة لباقي المجتمعات غير الكردية في هذه الدول. فالديموغرافيّة الكرديّة في المنطقة، وفق الإحصاءات المتداولة غير الرسميّة، باتت أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه عند نهاية الحرب العالمية الأولى، بينما نمت ديموغرافيات مجموع سكان هذه الدول بقرابة خمسة أضعاف فحسب!
تشير أرقام الإحصاءات التركيّة إلى أن عدد سكان تركيا في أواسط العشرينات كان في نحو 14 مليون نسمة، الكرد منهم أقل من 1.5 مليون نسمة. أي أنهم كانوا يشكلون حوالي 10 في المئة من مجموع السكان. راهناً، تدل المؤشرات الانتخابية إلى وجود حوالى 20 مليون كردي في تركيا، من أصل تعداد سكاني كلي يبلغ 80 مليون نسمة. أي أن نسبة الكرد قفزت لتقارب ربع سكان البلاد خلال قرن. حدث الأمر ذاته في باقي الدول. في المحصلة صارت النسب الديموغرافيّة الكرديّة في هذه الدول أكبر من قدرة أنظمتها على تغطية نكران وجود الكرد فيها.
الأمر الآخر تمثل بتحولات التنمية الاقتصاديّة ونمو التعليم وتضخم المدن وتطور وسائط النقل وانفجار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. مع كل تلك المجريات، صار المجتمع الكردي أقدر على التعبير عن قضيته، وباتت النخب الثقافية والسياسيّة المعارضة في هذه الدول أكثر تفهماً لمعاناة مواطنيهم الكرد. فتيارات غير قليلة من نخب هذه الدول صارت أوضح نقداً لسياسات أنظمة الحكم الكابحة لتطلعاتهم. لقد غدت المسألة الكردية أمثولة لقضايا حقوق الإنسان والمظلوميّة والعدالة في هذه الدول، ولم تبق محض مسألة سياسيّة.
في هذه التحولات غدت الدول أقل قدرة على استعمال العنف المادي والنكران الرمزي للوجود الكردي. فأساليب القمع كانت تنتمي للقرن العشرين، أو حتى ما قبل ذلك، فيما صارت مجتمعات هذه الدول، ومنها المجتمع الكردي، جزءاً من قرنٍ جديد، بمنطقه وفروضه. ومن هنا تأسس جوهر التناقض بين ما أريد له أن يكون ثابتاً، وما تحول بفعل حركة التاريخ.
أخيراً، أن الكرد في هذه الدول بقوا الجماعة الوحيدة التي حافظت على وهج نزعتها القومية، في وقت ترهلت فيه قوميات باقي الجماعات، لصالح النزعات الدينيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. أو أن التجارب القوميّة في الدول مارست فظاعات بحق السكان المحليين، لم يفعل القوميون الكرد مثلها. فقد كان لخبوّ النزعة القومية في هذه الدول دور خامل انعكس على كل النزعات الايديولوجية السياسية الأخرى فيها، أياً كانت.
لم يخض الكرد تجربة تحقيق الذات القومية، لذا لم يواجهوا قسوتها وعنجهيتها وآثارها التدميرية على تفاصيل حياتهم. على العكس تماماً، صار الكرد بالتقادم يبنون أسس وعي قومي صلب، حيوي ومتوهج ومضاد لكل خمول، بقي حاضراً حتى الآن. وخلق هذا التباين بين مسار القوميّة الكردية ونظرائه في الدول الأخرى، واقعاً ضاغطاً على أنظمة هذه الدول، فصارت خطاباتها أقل قدرة على خلق حشد تعبوي مضاد للنزعة الكرديّة.
رستم محمود