لعل الحذر ، أو ربما التواضع ، هو ما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى تجنب إستحضار التاريخ العثماني ، لدى إعلانه بالأمس عن بدء التدخل العسكري التركي في مدينة إدلب السورية، الذي يمثل الاختراق التركي الأعمق حتى الان للاراضي السورية، والإحياء الابرز لدور تركيا الذي شهد إنكفاءاً شديداً في العامين الماضيين ، أمام الغزو الروسي والزحف الايراني في سوريا.
وبدلا من أن يحتفي أردوغان بذلك التوسع العثماني المتجدد، نحو تلك المدينة السورية بالذات، التي تدين بوجودها الحالي ومكانتها الخاصة على الخريطة السورية للعثمانيين بالذات، ولا تزال تحمل بصمات سلاطينهم وتحفظ آثار مشاريعهم العمرانية والزراعية، قرر الرئيس التركي الذي لم يعرف عنه التواضع ولا الحذر يوما ، أن يضع الخطوة العسكرية التركية الجديدة في سياق عملية "درع الفرات" التي أطلقها العام الماضي وأدت الى تحرير مدينة جرابلس السورية الحدودية من داعش و المقاتلين الكرد ، وتحويلها الى واحدة من أنجح تجارب الادارة الذاتية المشتركة بين الاتراك والمعارضة السورية.
تكرار تلك التجربة محفوف بالمخاطر. فجبهة "النصرة" التي ورثت داعش وتمددت في مختلف أنحاء الشمال السوري حتى صارت الجهة العسكرية المهيمنة، جعلت من إدلب عاصمتها السياسية، ومركز حضورها ونفوذها الرئيسي. صحيح أنه لم يكن اردوغان ليغامر بنفسه في إعلان الدخول الى المدينة لو لم يسبق لحكومته التوصل الى تفاهم مع "النصرة"، على مغادرتها الى الارياف، وهو تفاهم أملته الضرورة وفرضته أيضا الاحتجاجات الشعبية السورية على إنتشار الجبهة في بقعة تحررت من قبضة النظام ولا تريد أن تقع في قبضة تنظيم إرهابي مستهدف من جميع دول العالم.
وعدا عن كون هذا التفاهم يسيء الى سمعة تركيا ويحيي الاتهامات السابقة لها بالتواطوء مع الارهابيين السوريين ومدّهم بالسلاح والرجال، فان "النصرة" ليست تنظيماً يمكن الثقة به، ولا الركون الى حاجته الراهنة لتفادي حملة عسكرية روسية وأميركية جديدة لن تكون نتيجتها سوى تطهير آخر مواقع إنتشاره العلني في الشمال السوري. كما ان وحدات الجيش السوري الحر ، التي ستتقدم القوات التركية في إدلب، كما جرى في جرابلس، صيف العام الماضي، يمكن ان تقع في أسر النصرة وحلفائها في المدينة التي كانت من أوائل رموز الثورة المدنية السورية ، وأول المدن التي تحررت من سلطة النظام ، وصارت اليوم توصف بأنها قندهار السورية، ويتجمع فيها من النازحين السوريين ما يفوق عدد سكانها الاصليين بعشرات الاضعاف.
ما يحد من هذا الخطر هو أن تركيا لا توسع نطاق عملية "درع الفرات" حسبما راوغ أردوغان، لكنها تنفذ إتفاقاً رسمياً مكتوباً مع الروس والايرانيين، إستغرقت صياغة تفاصيله الدقيقة أكثر من ستة أشهر. وهو ما يزيل الشك في إمكان ان يقع الاتراك في كمين روسي أو إيراني، ويعزز فرص نجاح التجربة التركية الجديدة، المبنية طبعا على تجربة جرابلس، والتي تجنب تركيا كارثة لجوء مئات الالاف من النازحين السوريين المقيمين في إدلب،إذا ما مضى الروس قدما في حملتهم العسكرية على المدينة، التي ذاقت في الاسبوعين الماضيين مرارة المجازر التي يرتكبها الطيران الروسي من دون رادع.
التدخل التركي فرصة أكيدة ، بل وحيدة ، للحؤول دون ان يصبح مصير إدلب مثل مصير الرقة أو دير الزور اللتين لم يُبقِ فيهما الاميركيون والروس بشراً ولا حجراً، وخطوة مهمة نحو تخليص الشعب السوري وثورته وثواره من تلك الفضيحة التي يمثلها ظهور "النصرة" وشيوخها ومقاتليها الآتين من مجاهل التاريخ..
والأهم من ذلك ان التدخل العسكري التركي ، حتى ولو كان تحت المظلة الروسية والرقابة الايرانية، يعيد الأمل بتجدد الدور السياسي التركي، الذي هو بالتعريف، أكثر تعقلاً ووعياً وأقل جموحاً وتوتراً من دور موسكو الهائج، و من دور إيران المقاتل.. ويكسب إتفاقات "خفض التصعيد"، بعضاً من المصداقية والحيادية، أمام فرقاء الصراع السوري، الذين لن يكترث أحد منهم الى أن العثمانيين عائدون اليوم الى واحدة من مدنهم السورية القديمة.