ليست هي المرّة الأولى التي يناقش فيها مجلس النواب اليوم مشروع الضرائب المطروحة لتمويل سلسلة الرتب والرواتب!
والمأزق المالي - الاجتماعي الذي يتخبّط فيه البلد اليوم، ليس الأول من نوعه! فقد سبق لعهدي الرئيسين الياس الهراوي واميل لحود أن خاضا في هذه الدوامة، وكذلك حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وشهد مجلس النواب العديد من الجلسات لمناقشة الأوضاع المالية والاقتصادية، من دون التوصل إلى قرارات حاسمة، تحدّد مسار المعالجة الإصلاحية الناجعة.
تفاقم المشاكل الاقتصادية في عهود ما بعد الطائف، لم يكن سببه غياب الرؤية عند الحكومات المتعاقبة، وخاصة رؤساءها، بل كانت العلة تكمن في سياسة التعطيل والكيدية التي سادت في عهد الرئيس لحود، ثم المماحكات والانقسامات السياسية التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأدت إلى التسبب بشغور رئاسي مرتين خلال أقل من عشر سنوات، وإلى شلل في دور الدولة، فضلاً عن انتشار حالة من الفوضى والتسيّب في الإدارات والمرافق العامة.
ولعل ما كشف عنه الرئيس فؤاد السنيورة خلال جلسات مناقشات السلسلة، وسبل تمويلها، حول وجود ورقة إصلاحية «لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي والإداري ولتعزيز النمو»، يُؤكّد الإحاطة بخلفية المشكلة المزمنة وأسبابها، وتحديد أطر معالجتها بشكل عملي وعلمي دقيق، وبالتالي إمكانية الانتقال بالبلاد والعباد إلى مرحلة من الاستقرار والازدهار، طال انتظار اللبنانيين لها.
ويروي الرئيس السنيورة انه تمّ التوافق على «الورقة الإصلاحية» في الاجتماع النيابي - الحكومي بتاريخ 21-23 تموز عام 1997، برئاسة الرئيس الياس الهراوي في القصر الجمهوري، حيث أجمع المشاركون من رؤساء وقيادات سياسية وهيئات اقتصادية، على مجموعة من الخطوات الإدارية والاقتصادية، تهدف إلى تحقيق الإصلاح المطلوب للسيطرة على الوضع المالي المتردي، والعمل على تعزيز فرص النمو وتحريك الاقتصاد، للخروج من حالة الركود التي كانت تهيمن على الأسواق.
في المعالجات الإدارية أوصت الورقة بوقف التوظيف وتخفيض عدد الموظفين وترشيق الهيكلية العامة للدولة، إلى جانب تفعيل أجهزة الرقابة وتطوير وتحديث أنظمتها، وتعزيز حصانتها، إلى تدابير أخرى هدفت إلى تخفيض كلفة تشغيل الإدارات العامة.
في عصر النفقات، تمّ التوافق على تخفيض أرقام اللوازم والمفروشات و«النفقات الشتى» في موازنة عام 1998، وإلغاء نظام تقاعد الرؤساء والنواب، الذي يكلف الخزينة مئات الملايين سنوياً، وإلغاء تعويضات مستشاري الوزراء، وإلغاء رحلات السفر إلا في الحالات الاستثنائية، وعدم دفع نفقات التطبيب في الخارج إلا في حالة خاصة جداً.
أما في الواردات، فتضمنت بنوداً، لو تمّ تنفيذها، لما حصل كل هذا التخبّط اليوم! إلى اعتماد ضريبة المبيعات، تمّ التشدّد في ربط دوائر ضريبة الدخل مع الدوائر الجمركية، وإخضاع شاغلي الأملاك البحرية للرسوم المفروضة على الإشغال والاستثمار، وتوسيع قاعدة المكلفين الخاضعين للربح المقدّر، وغيرها من الإجراءات التي تُعزّز موارد الخزينة.
الطريف في الأمر، أن بعض التوصيات التي اتخذت قبل عشرين عاماً ونيّف، ما زالت صالحة في معالجة المأزق الحالي، بل تبدو وكأنها اتخذت في جلسة الحكومة الأخيرة، حيث دعا بعضها إلى عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون التغطية اللازمة وإجراء الإصلاح الإداري، وعدم زيادة الاعتمادات في موازنة العام المقبل، إلى جانب دعم الصناعة وزيادة إنتاجية القطاع العام، وتحريك السوق العقاري!
ولكن المأساة الوطنية لا تكمن، فقط ، بأن تلك التوصيات على أهميتها بقيت حبراً على ورق، بل ذهبت الأمور أسوأ من ذلك، حيث استمرت فوضى الإنفاق العام على غاربها، وتضاعفت الأعباء على الخزينة، وازداد حجم القطاع العام، بدل ترشيقه، وتم حشو الأتباع والأزلام في وزارات الدولة وإداراتها، وتضاعف العجز في الكهرباء والحبل على الجرار مع البواخر التركية، وبقيت عائدات الأملاك البحرية سائبة، وعمّت روائح الصفقات والفساد، وسط أجواء من التناتش والمحاصصة بين الأطراف السياسية المتسابقة على غنائم السلطة!
فهل ثمة أمل للمراهنة على حدّ أدنى من الإصلاح اليوم؟