" البيك بعز علينا كتير " بهذه الكلمات القصيرة دخل الرئيس نبيه بري إلى قصر كليمنصو للقاء الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط بالأمس.
هذه الكلمات ليست مفاجئة لمن يعرف تاريخ العلاقات بين بري وجنبلاط منذ الحرب الأهلية اللبنانية حتى الآن والتي صنعت تاريخ وحاضر لبنان وهي من العلاقات النادرة التي إمتازت بالثبات وحسن التنسيق وتحصيل المكاسب ما أمن إستمرارية زعامة كلا الشخصين على طائفتيهما.
لكن المشهد دخل عليه زائر جديد ، رجل شاب لم يصل بعد إلى خبرة " العتيقين " في السياسة اللبنانية والذي منذ عامين تقريبا بدأ يفهم جيدا كيفية اللعب على حبالها ويستغل ثغراتها.
هو سعد الحريري، الذي دخل قواميس غينيس بالتخبط السياسي والإنكسارات لكنه أثبت جدارة في إدارة لعبة سياسية معينة ومحرجة يبدو اليوم أنه بات مدركا خطورة المغامرة في الذهاب بعيدا فيها.
ولا شك أن اللقاء ليس عاديا وسيترك تداعيات كبيرة في الأيام المقبلة وإن كان من المبكر الكلام عن أسباب اللقاء وحيثياته إلا أن مرحلة ما بعد التسوية الرئاسية والحكومية تعطي إنطباعا أوليا حول خطر بات يتحسسه رعاة إتفاق الطائف.
ترويكا النظام :
بعد التوقيع على إتفاق الطائف في العام 1989 إنتهت الحرب الأهلية ودخل لبنان مرحلة السلم وإعادة الإعمار.
كانت هذه مرحلة بمثابة وراثة مكتسبات المسيحيين التي حصلوها قبل الحرب ومكسب كان لا بد لزعماء الحرب أن يحصلوا عليه بعد إنتهائها.
ولإدارة المرحلة الجديدة وتحصيل المكتسبات، ولدت الترويكا السياسية في لبنان وضمت كل من الرئيس الراحل إلياس الهراوي والرئيس نبيه بري والرئيس الراحل رفيق الحريري ومن خلفهم النائب وليد جنبلاط دون أن يكون رسميا أحد مكونات هذه التركيبة.
إستطاعت هذه الترويكا السيطرة على مفاصل البلد من توظيف وإنتخابات نيابية وإعادة إعمار وحصص وزارية وإحتكار وكالات مستفيدة من الوصاية السورية وتغطيتها.
وبفعل هذه الترويكا تكرست زعامات في البلد لا يمكن تخطيها أو الإطاحة بها لأن البديل سيكون خراب النظام وسقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
يحلو للبعض أن يسمي هذه الترويكا بالحريرية السياسية بسبب الثقل السياسي والإقتصادي للرئيس الراحل رفيق الحريري ويروق للآخرين تسميتها بالترويكا فقط الذي وزعت المغانم بين الهراوي وبري والحريري ومعهم جنبلاط.
إستطاع كل من بري و جنبلاط تقوية وتكريس القواعد الشعبية لديهما مستفيدين من التوظيف وصناديق الخدمات كصندوق مجلس الجنوب وصندوق المهجرين فيما نجح رفيق الحريري في بناء حالة سنية خالصة له إستطاع بعد ذلك إختراق المسيحيين وتقوية شخصيات مستقلة على حساب الأحزاب التقليدية كالكتائب والقوات.
أما الهراوي فقد فشل في بناء قاعدة جماهيرية له وإنتهى دوره السياسي بعد خروجه من قصر بعبدا.
إقرا أيضا: ذئاب داعش المنفردة
إغتيال الحريري :
بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 خسرت الترويكا أحد أهم أعمدتها وذهب جنبلاط إلى خيار بعيد نوعا ما عن خيارات بري فإهتزت المعادلة الداخلية وإضطرب البلد.
لكن بالحد الأدنى ومن خلف الكواليس كانت آلية عمل الترويكا مستمرة في إدارات الدولة والتي أثبتت الأيام أن مصيرها مرتبط بمصير النظام لا الأشخاص فقط.
وعلى الرغم من التباعد السياسي بين جنبلاط والحريري وبري بعد مظاهرتي 8 و 14 آذار إستطاعت الترويكا الصمود في وجه تسونامي ميشال عون المطالب بإستعادة حقوق المسيحيين.
فلم يكن عون غافلا عن تأثيرات هذه الترويكا وأدرك منذ اللحظة الأولى خطورة إتفاق الطائف على المسيحيين كما هو يظن وإعتبر أن الحل الوحيد لعودة الدور المسيحي إلى سابق عهده هو الإطاحة بهذه الترويكا ولفعل ذلك لا بد من الإطاحة بالطائف نفسه، فشن بين عامي 2005 و 2016 - سنة إنتخابه رئيس للجمهورية - حملة شعواء وقاسية على إتفاق الطائف والحريرية السياسية لتفريغها من محتواها، لكنه فشل.
فشل عون في لجم جماحها لكنه إستفاد من فائض قوة حزب الله حليفه الإستراتيجي للوصول إلى بعبدا وترؤس البلاد وأدرك أن البلد لا يمكن أن يدار إلا بعقلية الترويكا حتى لو لم يعترف بذلك علنا فإنتقل من مرحلة الإطاحة بالطائف إلى مرحلة تغيير شخصيات الترويكا.
يريد الرئيس ميشال عون خلق ترويكا جديدة في البلد تتألف من سعد الحريري وحزب الله والتيار الوطني الحر وهذا يتطلب الإطاحة ببري وجنبلاط.
أدرك ثعلبا السياسة اللبنانية الأمر وشعروا بذلك في محطات عديدة أولها عند إجراء التسوية الرئاسية بين نادر الحريري وجبران باسيل وثانيها التسوية الحكومية والمحاصصة التي جرت في أكثر من ملف وقبول الحريري بكل ما طالب العونيون به وثالثها التحالف الإنتخابي المتوقع بين التيارين الأزرق والبرتقالي.
وعلى خط هذه التسويات والمحطات شهدت العلاقات بين الحريري وجنبلاط والحريري وبري توترا كبيرا في العديد من الملفات ما أشار بوضوح إلى إنزعاج وقلق.
لكن شيئا ما حصل جعل الحريري يتغير ، فجأة نراه يتصالح مع جنبلاط ويذهب للإجتماع معه ومع بري في كليمنصو، فما الذي حصل ؟
هناك من يرى أن الحريري وبعد مطالعته للعديد من إستطلاعات الرأي لتيار المستقبل وجد أن هناك رفض مطلق للتقارب مع التيار العوني في ظل خطابات باسيل المتشنجة إتجاه النازحين السوريين وأيضا بسبب التراكمات التاريخية التي تركتها خطابات ميشال عون إتجاه الحريري والسنة في لبنان والتي خلقت إنطباعا سيئا لدى هذا الجمهور لم يزل من وجدانهم حتى الآن.
بالمقابل يرى البعض أن سعد الحريري شعر بالغدر من التيار البرتقالي بعد لقاء الوزيرين جبران باسيل ووليد المعلم في نيويورك والذي إعتبره المستقبل على لسان الوزير نهاد المشنوق خروجا عن ما تم الإتفاق عليه وهدد بخطوات للرد عليه في المستقبل.
إقرا أيضا: المشنوق في نادي الصقور ... هل تنفجر الحكومة بعد مواقفه التصعيدية ؟
من هنا يربط بعض المطلعين على المشهد السياسي اللبناني بين تهديدات المشنوق ولقاء الأمس ويرون فيه أول ترجمة لغضب الحريري من لقاء نيويورك.
لكن اللقاء لم يكن فقط نزولا عند رغبة الحريري، فالهاجس المشترك بين بري وجنبلاط من تصرفات باسيل الإستفزازية والرامية لتهديد مصالهم في الدولة جعلهم يدركون أن أحد أهم مصادر قوة رئيس التيار الوطني الحر هو تماشي سعد الحريري معه ومع مطالبه وبالتالي إستغلوا فرصة غضب الحريري من لقاء نيويورك لتنظيم لقاء الأمس.
بالطبع صورة لقاء كليمنصو ستزعج كثيرا جبران باسيل وستقلقه وأسئلة كثيرة ستطرح، فمصيره بالإنتخابات النيابية هذه المرة حساس لكثرة المنتظرين سقوطه وفشله هذه المرة سيكون ضربة قاسية له وبالتالي لقاء الأمس هو رسالة بالتحديد له للتواضع وتقبل وضع النظام اللبناني وعدم خرق خطوط حمراء سيدفع هو ثمنها أولا في حال إستمر بهذا الأداء السياسي.
وهي رسالة للرئيس عون أيضا ، فالصورة تذكره بالطائف ومرحلة التسعينات والمنفى وذكريات لا يحبها، بضحكات وسهرات زعماء كادوا له وبحقائق صار لزاما عليه أن يقتنع بها بأن الترويكا لم تهرم بعد وأربابها باقون ما بقي الدهر.