للمرة الثانية، ولكن بعد فترة طويلة من الغياب، عاد صوت شيعي من المستقلين خارج الاصطفاف مع ثنائي “حزب الله” وحركة “أمل”، فالتقى عشرات من نخبهم في بيروت مطلقين نداءً حمل عنوان “آن لدولة مدنيّة أن تبنى والانتخابات النيابية بداية قيامها”. وساد اللقاء الذي التأم في فندق مونرو نقاش بشأن كيفية تعميم هذا النداء على المستويين الشيعي والوطني معاً.
وكان لافتاً أنّ اللقاء الجديد تميّز بحضور شخصيات من البقاع، فكانت العمامة الوحيدة فيه للشيخ عباس الجوهري إلى جانب نشطاء برزوا في ساحات العمل السياسي والمدني، يتقدمهم غالب ياغي الذي نال عشرات الآلاف من الأصوات في الانتخابات البلدية الأخيرة في مدينة بعلبك. وخلال ترؤسه اللقاء دعا إلى “خلق جبهة وطنية معارضة لا ارتباط لها بأيّ جهة غير لبنان وشعبه. “وبعدما تلا البيان الدكتور حارث سليمان، وجّه السفير السابق خليل الخليل باسمه نداءً مقتضباً من محتوى البيان الموسّع، دعا فيه إلى “تغيير السلطة التي لا تؤمن بتداول السلطة”.
ثم طرح الحضور جملة ملاحظات، منها ما طرحه الإعلامي محمد بركات لجهة الأخذ بالاعتبار مخاطبة البيئة اليسارية داخل الطائفة الشيعية، وهو ما عبّر عنه الناشط جمال شحادة فيما دعا الصحافي غسان الزين إلى تفادي إنشاء “حوزة” جديدة تضاف إلى الحوزات الدينية القائمة. وحثّ علي الديراني على مواصلة العمل، فيما نصح ميّاد حيدر بـ “تصغير حجر” الأهداف. وطالب الصحافي علي الأمين بالالتفات إلى مضمون النداء لا إلى شكله، فيما ردّ الشيخ الجوهري على ملاحظة أحد المشاركين قائلاً: “إنّ العمائم تتحكم في الناس منذ ثلاثين عاماً وآن الأوان للعودة إلى الحق والمنطق والقانون”. ومن المداخلات اللافتة أيضاً تلك التي أدلت بها الدكتورة منى فياض،
التي لفتت إلى “اليد الثقيلة لإيران على لبنان”. وميّزت بين واقع جنوب لبنان الذي يجري التحكم به لأسباب اقتصادية وبين واقع البقاع الشيعي الذي يمتلك قدرة على الحركة لأسباب قبلية وعشائرية، داعية إلى طرح لائحة من 128 نائباً لخوض الانتخابات المقبلة. وقال الكاتب يوسف مرتضى إنّ هناك فرصة للاستفادة من قانون الانتخابات الجديد القائم على النسبية. وجاءت دعوة من “بيروت مدينتي” حملها المهندس هشام عيسى، للنضال على المستوى اللبناني من أجل إيصال عشرة نواب إلى البرلمان الجديد. وفي ما يأتي نصّ النداء الذي صدر عن المجتمعين:
نداء من شخصيّات لبنانية مستقلة إلى اللبنانيين:
“آن لدولة لبنانية مدنية أن تبنى، والانتخابات النيابية بداية قيامها.”
نحن لبنانيون وطنيون وديموقراطيون من مشاربَ مختلفةٍ، التقينا وتناقشنا فوجدنا أنّ ما يجمعُنا همٌّ واحدٌ هو بناءُ دولةٍ مدنيّةٍ قويّةٍ وقادرة، دولةٍ سيّدةٍ على أرضها وحدودها، تؤمّنُ تداولَ السلطةِ الدوري وفقَ النصوصِ الدستورية، دولةٍ تبسطُ سلطتَها بواسطةِ جيشِها وقواها الأمنيّة دون سواها، دولةٍ تقومُ على فصلِ السلطات وتعاونِها ومحاربةِ الفساد وصرفِ النفوذ، دولةٍ تحتكمُ لأصولِ المحاسبةِ العموميّةِ والشفافيةِ الماليةِ وتمنعُ استغلالَ السلطةِ من أجل الإثراء غير المشروع. دولةُ رعايةٍ لمواطنين أحرارٍ لا دولةُ محاصصةٍ لرعايا مستعبَدين، دولةُ عدلٍ وقانونٍ لا دولةُ ظلمٍ واستبداد.
نحن لبنانيون أولاً وشيعة ثانياً، ننتمي إلى ثقافةٍ ترفضُ الظلمَ والانصياعَ لمستبدّ، وترفضُ الفتنةَ وهدرَ الدماء من أجل سلطةٍ ظالمةٍ مهما علا شأنُها، ولا تُسلِّمُ بشرعيّةٍ غيرَ شرعيّةِ الدولةِ ولا بسلطةٍ غيرَ سلطةِ القانون.
نحن لبنانيون مواطنون أحرار نعلنُ أنّ سلطةَ المحاصَصَةِ الطائفيّةِ قد تجاوزتْ كلَّ الحدودِ بعدما أطاحتْ الدستورَ والقوانين وقوَّضتِ الإدارةَ وأنظمَتَها وجيَّرتْها للأزلام والمحاسيب، وعطَّلتِ الحياةَ البرلمانيةَ والمؤسساتِ الدستوريةَ والاستحقاقاتِ الديموقراطيةَ، وسخَّرتِ الوطنَ لأجنداتٍ إقليميةٍ خارجيةٍ واستباحتِ الأملاكَ والمرافقَ العامّةَ والبلدية، وباشرتْ استرهانَ الثروةِ النفطية وأغرقتِ البلادَ والعبادَ في دينٍ متفاقمٍ سيسترهن المواطنين لأجيالٍ مديدة.
من مراجعة تجربة العقد ونيّف المنصرمة، نرى أنها حفِلتْ بمحاولاتٍ عديدةٍ عقيمةٍ قامتْ بها أطرافٌ وقوى مختلفةٌ لعقدِ تسوياتٍ بين منطقِ الدولةِ لا منطقِ الدويلة، وقد سعتْ هذه القوى جاهدةً لفكّ ارتباطِ أزمةِ الإقليمِ بالواقع اللبناني. فلا النأيُ بالنفسِ ولا تحييدُ لبنانَ عن النزاعِ الإقليميِّ ولا التزامُ قراراتِ الشرعيّةِ الدوليّةِ أثمرتْ. فقد استمر الإصرار والإمعان في أخذ طائفة بمجملها إلى “صحراء تيه سياسيّ وثقافيّ في خدمة أجندات إقليمية”، وفي الاشتراك في حرب دائرة على قاعدة انقسام مذهبي سيحرق بلهيبه مستقبلنا.
أيها اللبنانيون
مسؤوليتكم ومسؤوليتنا اليوم مضاعفة، فمنذ ربع قرن تستمر سلطة أحزاب بعينها، وتزيد من نفوذها يوماً بعد يوم، ويتدهور مستوى معيشتكم كل يوم، وكلما زادت الأحزاب القابضة على أنفاس الطوائف مكاسبها تدنى مستوى دخلكم، وجودة تعليم أبنائكم، وفاعلية تغطيتكم الصحّية واستشفائكم، وسدّت فرص العمل أمام شبابكم… المشهد اليوم هو نظامُ حكم في لبنان معطّلٌ، والدولة على مسارِ الفشلِ، والاقتصادُ الوطنيُ إلى إفلاس. إنّ المسؤولية في ما آلتْ إليه الأمورُ تَشَاركَ فيها جميع القوى، حكماً ومعارضةً، وإن بتفاوت.
من هنا نرى لزاماً علينا التوجهَ إلى أهلِنا أبناءِ الطائفةِ الشيعيةِ في لبنان خصوصاً، وإخوتِنا اللبنانيين عموماً، لنؤكِّدَ أن مسؤوليتَكم ومسؤوليتَنا اليومَ هي التأكيدُ أنّ التغييرَ في الساحةِ الشيعيةِ هو أساس مفصلي للتغيير في كل لبنان، عبر وضع حدّ لاحتكار التمثيل الشيعي في السلطة من قبل ثنائية حزبية، وتوسيعه لصالح فضاء مدني أرحب. قد يكون مفيداً ومساعداً تجديد النخب السياسية على مستوى الوطن كله، لكن استمرار التمثيل الشيعي على حاله يجعل من كل تقدّم في الساحات الأخرى، جزئياً، قليل الجدوى، ويمكن الالتفاف عليه ومحاصرته. فالانسداد الوطني لا يمكن إزالته إلا بتغيير حقيقي في التمثيل الشيعي في البرلمان والسلطة، وتلك مسؤولية وطنية وضرورة لبنانية تقع على عاتقنا وعاتقكم، وأنّ اختيارَنا الحرَّ لممثلينا في الانتخاباتِ النيابيةِ القادمةِ هو بدايةُ لإصلاح منشود يوقف الانزلاق نحو الهاوية.
أيها اللبنانيون يقعُ على عاتقِنا وعاتِقِكم واجبُ تنكّبِ مشروعِ الإصلاح والشروعِ في مسيرةِ بناءِ الدولةِ الوطنيةِ المرتجاة. فمعركتُنا هي معركةُ لبنانَ كلِّ لبنان. هي معركةُ مستقبلِنا ومستقبلِ أولادِنا وهي تتطلبُ الشجاعةَ والتضحيةَ والعزمَ على خوضِها برغمِ الصِعاب. فلنتكاتفْ جميعاً لإنجازها متحرِّرين من الخوفِ ومتمسّكينَ بالحقِ وحدَه يحرّرُنا ويحمينا ويحمي وطننا لبنان. عشتم عاش لبنان”.