عندما اختار الحريري عقدَ الصفقة مع «حزب الله» لم يكن في أقوى مواقعه. لذلك، فكّر ملياً، وعلى الأرجح قال في نفسه: «لا شيءَ لديّ أخسره. وليس هناك وضع أسوأ من اليوم. فـ«حزب الله» يتحكّم بقرار البلد، وأنا غائب. وإذا عدتُ إلى بيروت، وإلى الحكومة ورئاسة «المستقبل»، ضمن الصفقة مع العماد ميشال عون، سأتمكّن على الأقل من المشاركة في القرار وإثبات الوجود. فالمواجهة من الداخل أجدى من الانسحاب».
لم تكن أمام الحريري خياراتٌ كثيرة، فعقَد الصفقة ودفَع رئيسَ حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع إلى الالتحاق بها. ولكن، بعد أشهر، بدأ الرجلان يراجعان الحسابات: ما جدوى المشاركة في السلطة إذا بقي «حزب الله» يديرها بلا منازع، كما كان يديرها في حكومة ما قبل الصفقة؟
هل حقّق الحريري اليوم أهدافَه من هذه المشاركة: تحقيق التوازن المفقود، أم هو يضطلع بدور الشاهد على استمرار الخلل؟
أكثر من ذلك، يقول البعض إنّ الحريري يغطّي الخلل بمجرد وجوده في السلطة، هو ورفاقه الآذاريون، ويعطي «الحزب» مباركةً مباشرة وغير مباشرة ليمضي في نهجه. وفي الخلاصة: جاء الحريري إلى السلطة ليحقّق التوازن فاضطلع بدورٍ في استمرار الاختلال.
غير أنّ البعض يقول: من الظلم أن يتسرّع أحدٌ ويلوم الحريري ورفاقه على دخولهم الصفقة. فالخياراتُ أمامهم كلها سيّئة: الإنخراط كما المقاطعة. لكنّ آخرين يذكِّرون بقاعدة مُهمّة في العلوم العسكرية: إنّ تجنُّبَ الدخول في المعركة يبقى أفضل مِن خوضِ معركةٍ خاسرة!
في أيّ حال، يبدو الحريري أمام حساباتٍ دقيقة إذا قرّر اليوم الانسحابَ من اللعبة. فذلك يعني عملياً عودته إلى ما كان عليه قبل خريف 2016. لذلك، هو أمام واحد من خيارَين: هل يستمرّ في ممارسة اللعبة السياسية، في الداخل، إلى أجل غير مسمّى، أم يعود إلى وضعية ما قبل التسوية، أي ما قبل العودة إلى بيروت؟
ما يدعو إلى القلق تداولُ الكلام في بعض الأوساط على تهديدات واستهدافات أمنية، للمرة الأولى منذ نحو عام. ويعتقد البعض أنّ هذا الجوّ، المترافق مع اعتراضات الحريري ورفاقه على نهج «حزب الله» وحلفائه، قد يثير القلقَ من استعادةٍ كاملة لوضعيّة ما قبل خريف 2016.
في الحدّ الأدنى، يمكن أن يقود سقوطُ الصفقة إلى أزمة سياسية خانقة واعتكاف الحريري وشلل الحكومة. وفي الحدّ الأقصى، قد يقود إلى خروج الحريري، وتطيير الحكومة والانتخابات والاستقرار السياسي.
أطراف 8 آذار تتداول ما يأتي: إذا لم يعد الحريري مقتنعاً بالتسوية فهذا شأنه. لكنّ نهجَنا لن يتغيّر مراعاةً لأحد. ونحن حريصون على استمرار التعاون معه. وهو حتى اليوم لم يرتكب أخطاء في الخطوط العريضة، وبقي متوازناً في تعامله مع التطوّرات. ولكن، إذا كان قد بدّل نهجه وقرّر العودة إلى ما قبل التسوية والانسحاب من الحكومة فليعلن ذلك، وهناك كثيرون من الشخصيات السنّية ينتظرون».
في صفقة 2016، ربما لم يتنبّه كثيرون إلى أنّ الحريري هو المتغيِّر فيما عون وبري ثابتان وقادران على إكمال اللعبة. والأحرى أنّ الصفقة نجحت في إيصال عون إلى الرئاسة وتكريس موقع رئيس المجلس في تمديد ثالث حتى ربيع 2018… على الأقل، ولا أحد قادر على إلغاء مفاعيل الصفقة، والبقية تفاصيل.
اليوم، تدعو المملكة العربية السعودية القوى الداخلية التي تعتقد أنها ستساهم في فرملة اندفاع لبنان نحو المحور الإيراني. ولكن، للمملكة حساباتُها الإقليمية فيما لهذه القوى حساباتها الداخلية.
الأرجح أنّ السعوديين يؤدّون دوراً يشجّعهم عليه الأميركيون: مواجهة التوسّع الإيراني في المنطقة. وتترافق الدينامية السعودية الجديدة مع اتّجاه واشنطن الى تشديد عقوباتها على «حزب الله». ومن هذا المنطلق، لا يتحمّس السعوديون لمعارضة الأكراد في استفتائهم على الاستقلال.
بالنسبة إليهم، كردستان المستقلّة أو شبه المستقلّة من شأنها أن تساهم في قطع الجسر الإيراني من بغداد إلى بيروت، كما تشجّع سُنّة العراق على الخروج من قبضة السلطة المركزية التي يتحكّم بها الإيرانيون في بغداد.
وعلى رغم قلق السعوديين وحلفائهم الخليجيين من إضعاف الوحدة الوطنية لبلد عربي كبير كالعراق، فإنهم يعتقدون أنّ نوعاً من التفكّك في بنية العراق يبقى أفضل من وقوعه بكامله تحت قبضة طهران. ولا ينسى الكويتيون أنّ العراق الكبير المتماسك، بقيادة صدام حسين، شكّل خطراً عليهم ذات يوم.
وفي مسعاهم الجديد، لتنسيق المواقف بين قوى 14 آذار السابقة، يريد السعوديون فرملة اندفاع لبنان الرسمي نحو الخيار الإيراني، انطلاقاً من رؤيتهم الواسعة إلى شرقٍ أوسط مهدَّد بالتحوّل «إمبراطورية فارسية».
ولعلّ النقطة الأبرز في لقاءاتِ جدة هي: ما التداعيات المفترضة على وضع الحريري وسائر 14 آذار إذا ما قرّروا الانسحاب من الصفقة: هل أرباحهم أكبر أم الخسائر؟