حصل الإستفتاء في إقليم كردستان العراق أخيرا وكانت النتائج أكثر من المتوقع حيث صوت أكثر من 92% ب " نعم " أي لخيار الإنفصال عن العراق وشارك حوالي 70% من الأكراد في الإقليم والمناطق المتنازع عليها تاريخيا مع العراق ككركوك.
إعتقد كثر أن القضية إنتهت والهدف تحقق بمجرد صدور النتائج، إلا أن الحقيقة مخالفة لذلك كون المهام الصعبة بدأت الآن وهي مرحلة التفاوض الجدي لقيامة الدولة الكردية.
والأكراد أو " الكورد " يعتبرون قومية عريقة وراسخة في تاريخ الشرق وهم عابرون للحدود والدول ويتمركزون في تركيا وإيران وسوريا والعراق وبنسبة أقل في لبنان، وداخل الكيان الصهيوني هناك جالية كردية يبلغ عددها حوالي ال 170 ألف كردي.
فهم قومية يبلغ عددها حوالي ال 30 مليون نسمة وأكثر ويصنفها الخبراء على أنها أقلية مقارنة بالقومية العربية البالغ عددها حوالي ال 300 مليون نسمة، ويسكن العدد الأكبر منهم في تركيا خصوصا في جبل قنديل الذي يشكل لهم رمز للثباث والصمود والثورة.
وتاريخيا كان لهم مطالبات بالإنفصال وحق تقرير المصير وإستطاعوا تأسيس دولة لهم في مهاباد بإيران عام 1946 بمساعدة سوفيتية إلا أنها سقطت بأقل من سنة بسبب ضغوطات مارستها أميركا حينها على السوفيات.
ومنذ ذلك الوقت والحلم بولادة هذه الدولة يرافق الأكراد من صغرهم حتى جاء إستفتاء كردستان في أيلول 2017 .
إقرأ أيضا : مأزق الاستفتاء الكردي
إستفتاء كردستان :
في 25 أيلول 2017 أجرى الأكراد برئاسة مسعود برزاني الإستفتاء من أجل الإنفصال عن العراق وتأسيس الدولة الكردية وصوتت الأغلبية الساحقة لخيار الإنفصال ما عكس المزاج الشعبي التاريخي للكرد الطامح بالعيش في دولته الموعودة.
ومن مبدأ العدالة الإنسانية والمساواة لا شك أن للأكراد كل الحق بدولة خاصة بهم لعدة إعتبارات كوجود مناطق في العالم تضم نسب سكان قليلة ولها دولها كقطر وقبرص وأيضا بسبب أن القومية العربية لوحدها لديها 22 دولة موزعة بين آسيا وأفريقيا، يضاف إلى ذلك الإعتبارات الجغرافية والتاريخية والثقافية للأكراد في منطقتنا كونهم سكان أصليين وليسوا وافدين أو غرباء.
وإنطلاقا من هذا الإعتبار الأخير لا يمكن المقارنة أو التشبيه بين التجربة الصهيونية داخل فلسطين والتجربة الكردية داخل العراق مثلا، فالفروقات واسعة وشاسعة أيضا ولا يمكن البناء عليها كأسباب كافية لرفض إستقلال الأكراد.
بالمقابل، حق الأكراد في الإستقلال والإنفصال ليس مبررا كافيا لتأسيس دولتهم الآن والإنفصال عن العراق واليوم هناك إجماع دولي وعربي وإقليمي من أميركا إلى إيران وتركيا على رفض هذا الإنفصال حتى أن أميركا رفضت الإعتراف بنتائج الإستفتاء بإستثناء " إسرائيل " المؤيدة للفكرة، وبالطبع لكل دولة أسبابها الخاص في رفض الإنفصال .
إقرأ أيضا : الاستفتاء الكردي وبيئته العامة
فتركيا وإيران يرفضون الإنفصال خوفا من أن تنتقل العدوى إلى سكانهم الأكراد فيطالبون بما فعله أكراد العراق وبالتالي تتقسم دولهم وتضعف أدوارهم الإقليمية، خصوصا أن حراكا كرديا آخرا في سوريا بدأ ينشط وأعلن الفيدرالية ويحمل نزعة إنفصالية أيضا.
أما العراق فيرفضه بطبيعة الحال كونه يعتبر كردستان أرضا تاريخية من أراضي العراق ولا مصلحة له إقتصادية ( بترول ، معادن ، آثار ... ) أو إجتماعية وديمغرافية ( ملايين السكان في الإقليم ) بأن يحصل هذا الإستقلال.
بدورها أميركا إتخذت موقفا أول من إنصدم منه هم الأكراد أنفسهم كونهم يعتبرون الحليف الأقوى لأميركا في محاربة داعش، ولذلك تعترض أميركا على الإستفتاء من حيث التوقيت بالدرجة الأولى كون المعركة ضد داعش لم تنته بعد فلا داعي لخلق مشاكل إضافية في هذا الوقت مع إعترافها وقبولها بحقوق الأكراد ضمن شكل حكم لهم أكبر من حكم ذاتي وأقل من دولة، أي فيدرالية ذات صلاحيات موسعة تكون تمهيدا بالمستقبل البعيد بعد أن تتوفر الظروف لقيام هذه الدولة.
من جهة أخرى تطل " إسرائيل " على الحدث الإنفصالي بتأييد مطلق له وتكاد تكون ناطقا إعلاميا بإسم حقوق الأكراد أو كما يحلو لها أن تسميهم " أحباب إسرائيل".
لكن قراءة الموقف الإسرائيلي من قضية الإنفصال قد لا تكون كما يروج لها البعض في الإقليمين العربي والإسرائيلي، فمعروف أن الكيان الإسرائيلي هو أقوى حلفاء أميركا بالمنطقة وفي حال ولادة كيان كردي ( غير عربي ) فهذا يعني وجود بديل إستراتيجي لإسرائيل بالمنطقة وتصبح " إسرائيل " خيارا من خيارات أميركا وهذا ما لا يمكن تحمله داخل الكيان الإسرائيلي.
وإنطلاقا من هذه القراءة، يرى البعض بحماسة إسرائيل لدعم الإنفصال كنية من الإسرائيليين لإحراج الكرد أمام العرب وإظهارهم بشكل أنهم حلفاء إسرائيل ويريدون التقسيم ، وهذا ما نراه اليوم في تعليقات المحللين بالإعلام العربي فعند التطرق والنقاش بموضوع الإنفصال يتم طرح سؤال أساسي ومركزي للأكراد وهو : لماذا إسرائيل تدعمكم ؟ ولماذا يوجد أعلام إسرائيلية في مظاهراتكم ؟ وغيرها من الأسئلة التي تسبب إحراج للمحاورين الأكراد.
إقرأ أيضا : بالفيديو : آلاف الأكراد في إيران يتظاهرون تأييدا للإنفصال !
لكن آخرون يرون بهذه القراءة ترويجا لنظرية المؤامرة ويقرأون الموقف الإسرائيلي بأنه صادق في دعمه للأكراد بحيث أن تسليط الضوء على القضية الكردية ينسي العرب القضية الفلسطينية ( بالأصل هي منسية للأسف ) وتتحول كردستان كقاعدة أمامية لإسرائيل ضد إيران وتركيا معا.
وفي كلا الأحوال، لا شك أن هناك تعارضا من الطراز الإستراتيجي لأول مرة بين " إسرائيل " و " أميركا " في ملف حساس من ملفات الشرق الأوسط وهذا لوحده يجب التوقف عنده.
آفاق المرحلة المقبلة:
وبعد إعلان نتائج الإستفتاء تتراوح الخيارات بين العسكري والتأديبي وغيرها من الأدوات التي تلجأ لها الدول ( تركيا ، العراق وإيران ) لإفشال المخطط.
لكن نتائج الإستفتاء غير كافية لولادة الدولة كونها بحاجة لإعتراف دولي بها ( أحد أهم شروط نشأة الدول ) وهي أيضا بحاجة لمجال جغرافي وإقليمي تتنفس منه إقليميا ، وكردستان الحالية تفتقد لميزة جغرافية موجودة عند " إسرائيل " لدى نشأة الأخيرة وهو البحر ، فعلى الرغم من الحصار البري الذي كان مفروضا على " إسرائيل " من قبل العرب قبل مشاريع السلام معها إلا أنها كانت تمتلك منفذا بحريا وخطا ساحليا طويلا تتواصل عبره مع العالم.
أما كردستان فهي محاصرة من كل الجهات ولا بد لها من تحقيق شرط الإعتراف بها من دولة من الدول التي تحاصرها وهذا الشيء غير متاح حاليا.
إقرأ أيضا : ما لا تعرفونه عن أكراد العراق
ويدرك مسعود بارزاني هذا الأمر جيدا وقد إستبق نتائج الإستفتاء بالقول أن الدولة لن تؤسس حاليا بل ستمر بمسار قانوني لمدة عامين قبل أن تبصر النور.
بالمقابل، هناك مسار دستوري دعت إليه مرجعية النجف الأشرف وبخطاب عراقي هادىء ومعتدل للحوار بين المكونات العراقية من دون تدخلات خارجية والإحتكام للمحكمة الإتحادية العراقية.
وبين دعوة المرجعية وكلام بارزاني يبدو أن مخاض قيامة الدولة الكردية سيكون صعبا جدا وسيواجه صعوبات قوية في المستقبل، لكن ثمة أمر آخر لا بد للعراقيين والغربيين ودول الجوار أن يدركه وهو أن مرحلة ما قبل الإستفتاء قد إنتهت.
إقرأ أيضا : واشنطن: استفتاء أكراد العراق قد يصرف الانتباه عن قتال «داعش»
ما بعد هذا الإستفتاء هناك مطالب وإمتيازات يريدها الأكراد لن تقل عن المطالبة بفيدرالية ذات صلاحيات موسعة أي دولة على أرض الواقع من دون تسميتها بدولة.
وهذا هو الإنجاز الأكبر للإستفتاء الذي يحاول البعض غض النظر عنه والتخفيف من قيمته.
فهل سيقبل العراقيون العرب الصدام مع رأي الأكراد بالإنفصال وكأن شيئا لم يكن ؟
إن فعلوا هذا فسيعني ذلك إستمرار الأزمة وإنهيار العراق وحربا أهلية ستصل تداعياتها إلى داخل إيران وتركيا وسوريا، ولن تقف أميركا مكتوفة الأيدي.
هذا السيناريو الأسود يبدو حتى الآن مستبعدا ويدرك الجميع خطورته وبالتالي البديل هو طاولة المفاوضات في ظل تنامي النزعات الإنفصالية في العالم من جنوب السودان وإسكتلندا مرورا بالصحراء الغربية وصولا إلى كاتالونيا في إسبانيا.
فهذه المطالبات الإنفصالية في العالم ستكون بمثابة لوبي عالمي ضاغط لا بد للمجتمع الدولي أن يرضخ لها ويتجاوب مع مطالبها بالنهاية.
لذلك لا بديل ولا سبيل لحكومة بغداد سوى الحوار والتفاوض مع أربيل قبل أن تتحول القضية إلى رأي عام دولي، وبالتالي من سيضمن أن فقط إسرئيل حينها ستدعم الأكراد وليس غيرها من الدول ؟