كان على قاسم محفوظ أن يختبر ضعف قلبه باكراً. لم يشفع له صغر سنه، فكان عليه ان يغوص في عالم غريب عنه ويعيش في تقلباته ومخاطره الى حين توافر قلب طبيعي يحلّ مكان قلبه الضعيف. هكذا وجد نفسه في دائرة ضيقة، شبه مغلقة، تجعله يواجه صعوبات المرض وضعف عضلة قلبه بشجاعة وكثير من المجازفات. كان عليه أن يجتاز مسافات طويلة ويقصد اكثر من دولة لتشخيص حالته الطبية وصولاً الى زراعة القلب. اجتاز مراحل كثيرة، بعضها كان قاسياً عليه وبعضها الآخر نجح في تخطيها، هل كان بإمكانه تجنب كل هذا الألم والوجع؟ نعم...ولكن غياب التحديثات والتطورات الطبية الجديدة في لبنان جعلته يدفع ثمن ذلك، لكنه لا يندم او يتأسف على حاله، فهو اليوم نجح في اختبار قهر المرض والإنتصار عليه والعيش في قلب جديد مفعم بالحياة!
يروي لنا قاسم قصته مع قصور القلب وكل المراحل التي مرّ بها، يُشاركنا تجربته علّه يساعد غيره على تخطي هذه الصعوبات بأمل وحب. مرضه أشبه برحلة مفاجآت صادمة لكنها انتهت بخبر سعيد. يستعيد قاسم شريط حياته الى يوم الذي بدأ فيه كل شيء، يقول " كنتُ في الخامسة عشرة من عمري عندما إستيقظت على دقات قلب سريعة وغير اعتيادية، كانت المرة الاولى التي أشعر بهذه النبضات القوية. اتصلت حينها بطبيب الأطفال واطلعته عما يجري وطلب مني ان أستريح قليلا. وهذا ما حصل فعلاً، نمت ساعتين ومن ثم ذهبت الى المدرسة، وشعرتُ مجدداً بدقات قلب سريعة فتوجهتُ الى الممرضة التي أجرت لي كشفاً سريعاً ( تخطيط سريع) وطلبت مني الذهاب الى الطوارىء".
ويضيف "في الطوارىء، لم يتعاملوا بجدية مع تلك المؤشرات وقالوا لي يومها "ما تخاف، بتكون في شي وحدة مزعلتك، روح ع البيت وارتاح." لكن في الليلة نفسها، نقلت الى الطوارىء بعد ان زادت دقات قلبي بشكل كبير، وبعد إجراء بعض الفحوص والصور تبيّن ان هناك ضعفاً في عضلة القلب. وبرغم من تلك النتيجة الأولية إكتفى الطاقم الطبي بإعطائي" المغنيسيوم" والعودة الى المنزل".
فيروس يلتهم القلب
يصف لنا قاسم تلك المرحلة والمستجدات التي تمّ اغفالها قبل تشخيص مرضه، كانت الأيام تمرّ وعضلة القلب كانت تضعف أكثر فأكثر، حتى كشف اختبار "الميل" وفق قاسم "اني اعاني من "Myocarditis" اي عندما لا تضخ عضلة القلب بشكل صحيح في الجسم. لكن ذلك لم يجعلهم في المستشفى يتعاملون بشكل مختلف مع وضعي الصحي وعدتُ الى المنزل ليُغمى عليّ. نجوتُ بأعجوبة بعد ان وصلت دقات قلبي الى 250. وهذه كانت البداية، بداية مشوار مع حالة طبية لا أعرف عنها شيئاً، حتى ان المستشفى الذي يعتبر من أهم المستشفيات في لبنان كان عاجزاً عن تأكيد تشخيصها بسب غياب التجهيزات الطبية اللازمة لأخذ عينة من القلب وفحصها، فكان الترجيح بأني اعاني من Myocarditis دون اثبات طبي. وهذا الأمر جعلني أنام لمدة 20 يوماً في المستشفى حتى يستقر وضعي الصحي، لكننا لم نكن مطمئنين وكانت صحتي تتدهور وكذلك عضلة قلبي التي كانت تعمل بحدود 40% ووصلت بعد خروجي من المستشفى الى 15%".
وإزاء هذا الواقع، قرر أهل قاسم ان يسافروا به الى الولايات المتحدة الى مركز متخصص وكان ذلك في العام 2011 . هناك أجرى الـBiopsie اي اخذ عينة من القلب وتبين ان لديه ما يُسمى بالـ Viral Myocarditis وهو كناية عن فيروس التقطته سابقاً وأثر على عضلة القلب. وبالتالي هو بحاجة الى زراعة قلب، لكن أهله رفضوا الفكرة، لم يكونوا مستعدين لسماع ذلك، وقرروا العودة الى بيروت.
يسترجع قاسم تفاصيل تلك المرحلة واهميتها في تشخيص حالته، ويشرح قائلاً "قام والدي بالبحث على الإنترنت ووجد طبيباً في المانيا، وسافرنا الى هناك وأجريتُ Biopsie جديدة ونسبة للتطور في المانيا تمكنا من معرفة نوع الفيروس الذي يهاجم عضلة القلب. وقالوا لي يومها "لو جيت لعنا من كم شهر كنا قتلنا الفيروس الذي يأكل من عضلة قلبك." يأكل الفيروس عضلة القلب شيئا فشيئاً، وفي حال وجوده مدة طويلة يكون قد قضى على قسم كبير من عضلة القلب التي يستحيل ان تعود كما كانت. عندما سمعت الخبر، إنزعجت كثيراً، تمنيتُ لو كان لدينا كل هذا التطور والحداثة في بعض المستلزمات الطبية في لبنان التي تنقذ المريض من مضاعفات وخسائر كان بغنى عنها". واستطرد "وبما انه فات الآوان لhستخراج الفيروس، أُعطيت حقن لمدة 6 أشهر لقتل الفيروس حتى لا تقتل العضلة أكثر فأكثر. وهذا ما حصل فعلاً، وأجريت فحصاً بعد 6 أشهر وتم القضاء على الفيروس وان وضعي مستقر وتحسن عمل عضلة القلب لتصل مجددا الى 40%".
مراحل صعبة... ولكن!
ما هي أصعب المراحل التي عشتها في هذه التجربة؟ يُجيب "لقد مررتُ بمراحل كثيرة صعبة وقاسية التي يمكن ان اختصرها بأربع محطات: اولها كانت لحظة معرفتي بالمرض وانا ما زلت صغيراً. لا انسى تلك اللحظات التي كنت ادخل فيها الى المستشفى ومحاولة الأطباء في السيطرة على وضعي الصحي وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي تعيشها في غرف المستشفيات. اما الثانية فكانت لحظة توقف قلبي عدة مرات إلا ان البطارية أنقذتني وانقذت قلبي. في حين المحطة الثالثة كانت مرحلة الإنتظار في المستشفى لتأمين القلب وتحمل الجهاز الذي اسمه swan الذي يوضع على الرقبة لمراقبة دقات القلب وقوته يومياً، وكل هذه الخطوات والمراحل التي تمر بها تشعر بأنها لن تنتهي بسهولة. اما المرحلة الرابعة فكانت بعد العملية وما عليك ان تختبره من آلام ومضاعفات بعد العملية وغيرها من المفاجآت التي تكون في انتظارك وكأن معركة الصراع لن تنتهي بهذه البساطة".
في العام 2014، اطلع قاسم على كل التفاصيل التي هو بحاجة اليها لعملية رزاعة القلب والشروط التي يجب ان تتوافر، لا سيما ان فئة دمه نادرة وصعبة بعض الشيء O‾ وبنيته الجسدية قوية نسبة الى حجمه وطوله. لا يخفي حقيقة مشاعره في تلك المرحلة، يقول: "لم أكن صراحة مستعداً نفسياً لخوض هذا الإختبار والإنتظار لمدة قد تصل الى 6 أشهر داخل المستشفى. استقررتُ في أميركا لبعض الوقت وتعرفت إلى مجموعة لا انسى فضلها عليّ، لقد ساعدتني كثيرا. وفي ليلة شعرتُ بدقات قلب سريعة جداً وأدخلتُ الى المستشفى وأجريت اختبار التقييم لمعرفة اذا كنتُ أستحق هذا القلب. وفي هذا الفحص يتمّ التأكد من كل شيء، الكلى والرئة والدم، هو اختبار جسدي ونفسي تخوضه لمدة اسبوعين قبل أن يدرج اسمك ضمن لائحة الإنتظار، وقد وضع اسمي على قائمة لائحة ( status 1 A) .
قلب جديد... أمل جديد
انعكس ضعف القلب على الكبد، وصرتُ بحاجة الى قلب لمعالجة مشاكل الكبد. بعد اسبوعين على وجودي في المستشفى يرن الهاتف وأبلّغ بأنهم وجدوا لي قلباً. وللمصادفة كان ذلك الشخص دخل في الوقت نفسه من دخولي الى المسشتفى وتوفي لحظة إبلاغي بتأمين القلب. دخلت الى العملية بحماس ودون خوف، كنتُ اريد ان ارتاح واستيقظت من العملية كشخص آخر، كنت أتنفس بشكل مختلف حتى لون وجهي صار مغايراً، كل شيء تغيّر".
يؤكد قاسم ان "وضعه الصحي اختلف تماماً، قبل العملية كنت عاجزاً عن النوم بسبب ضيق النفس أما اليوم أصبحت شخصاً آخر، وكأنه سحر. واجهتُ مشاكل ومضاعفات صحية استثنائية، جعلتني أمكث مدة شهرين في المستشفى، علما ان الذين يجرون هذه العملية يغادرون المستشفى بعد 5 أيام فقط. بعد العملية أصبحت أعاني من ضعف شديد في الكلى نتيجة ضعف قلبي في السابق، واضطررت الى القيام بغسيل كلى موقت الى حين استرجاع صحتي، كما ان جسمي رفض هذا القلب الجديد فهو غريب عنه وأعطيت أدوية لحل هذه المشكلة، بالإضافة الى حدوث التهاب في جرح العملية. وهكذا بعد 5 أشهر عدتُ الى حياتي الطبيعية بقلب ينبض بشكل طبيعي".
إنسان آخر
صحيح أن هذه التغيرات فرضت نمط حياة جديداً، "فزراعة القلب تتطلب تناول ادوية" وفق قاسم، وذلك "لتخفيف المناعة حتى يتقبل جسمي هذا الجسم الغريب. لذلك كان يجب أن أرتدي دائماً كمامة والبقاء في المنزل وتفادي الزحمة والاماكن المغلقة. كانت الأشهر الثلاثة بعد العملية صعبة جدا، وبعد إجتياز المرحلة الاولى بدأتُ بتناول ادوية مناعة لتقوية جسمي وكان عليّ الإنتباه طيلة الوقت وان ابقي معي معقماً لليدين لتنظيف يدي عند مصافحة احدهم. وكان عليّ ان امشي كثيرا لا سيما في الاشهر الثلاثة الاولى بعد العملية حتى أعطي القلب دفعاً قوياً، إضافة الى اتباع نظام غذائي صحي والابتعاد عن الملح واللحمة والسمك النيء والقلي او أطعمة كثيرة الدسم وأهم شيء تفادي الجلوس مع اشخاص مريضين او يعانون من زكام لتجنب التقاط اي عدوى".
برأي قاسم "نحن بحاجة الى توعية أكثر والى مواكبة آخر المستجدات الطبية والتجهيزات الحديثة في موضوع زراعة القلب في لبنان، من دون ان انسى دعم طبيبي الذي وقف الى جانبي وشجعني على اتخاذ هذا الخيار دون خوف للوصول الى ما انا عليه اليوم".
هكذا اجتاز قاسم كل هذه المرحلة الطويلة من حياته واليوم تخرج من الجامعة بعد استكمال تحصيله العلمي وبدأ العمل مع والده. اليوم أصبح قاسم شخصاً ناجحاً في الحياة يحقق أحلامه بقلب مفعم بالحب والطموح والأمل الدائم.