عند تخرّجنا في صيف العام 2003 من كلية الهندسة، ذهبت لوزارة الأشغال لاستصدار رخصة مزاولة المهنة لنتمكن من التسجيل في النقابة، ومع أن الملف كان مستوفيا كل الأوراق والشروط حسب ما أفادتني الموظفة التي استلمت مني الطلب، بقيت أتردد إلى مبنى الوزارة مرة كل ثلاثة أيام، حتى بدا التعاطف جليا من تلك الموظفة التي ما كان منها إلا أن أعطتني رقم هاتفها وطلبت مني الإتصال قبل المجيء تخفيفا عني. وعندما سألتها عن سبب التأخير وبعد تعلثم منها قالت : طلباتكم عند المدير الفلاني وهو مشغول جدا... بقي الطلب ينقصه توقيع المدير المشغول شهرا كاملا.
بعد شهر طرت فرحا بورقة وزارة الأشغال وذهبت حسب الأصول إلى المالية لأقدّم تصريحا بعدم مزاولة المهنة، ملأت الإستمارة المخصصة وأعطيت الملف للموظف العابس الذي بعثر الأوراق بحرفيته ثم تبسّم وهو يلقمش منقوشته والسّكر منثور على طاولته، وقال لي إفادة مزاولة المهنة لا تنفع يجب إحضار بطاقة العضوية لنقابة المهندسين.
هرولت مسرعا لنقابة المهندسين، فطلبي مكتمل وموافَق عليه. في مدخل مبنى النقابة رأيت صورتي ضمن مجموعة صور للمهندسين الجدد. تهللت جذلا ودخلت بثقة طالبا استلام بطاقتي، ولكن قوانين النقابة تحتّم الخضوع أولا لدورة توجيهية تقام مرتين فقط في السنة وكان موعد دفعتنا في كانون الأول 2003. شرحتُ للموظف القصة وبيّنت له أنني على أبواب سفر ولا يمكنني المكوث أربعة شهور بانتظار البطاقة وعندما استغرب إلحاحي خلافا لكل زملائي رويت له قصة المالية، فزوّدني بنشرة تثبت أن إذن مزاولة المهنة كافٍ للتصريح في المالية، وأنه يجب التصريح خلال شهر من إصداره وإلا يغرّم المخالف بمبلغ كبير.
عدت أدارجي لمبنى المالية، وهذه المرة حدّثني الموظف العابس ذاته ولكن على الواقف ونهرني لعدم إحضاري بطاقة العضوية من نقابة المهندسين. شرحت له السالفة وأريته المنشور وأرشدته للفقرة التي تحذّر من التأخر في التصريح للمالية، فردّ لي الطلب وقال (عندما تُحضر البطاقة انا بزبطلك إياها ما تخاف ما رح ندفعك شي)، ثم غادر مكتبه. جلت بناظري في تلك الغرفة فرأيت زميلة له تتأبط هاتفها وتتحدث همزا ولمزا. اقتربت منها فرمقتني بنظرة وبدأت تقلّب أوراقا على غير هدى لتوحي بالإنشغال عني، انتظرتها فوضعت السماعة على كتفها وكانها تريح أذنها وقالت تفضّل، وقبل أن ترى طلبي ردته لي ودندنت ببراءة (مش فلان شفلك الطلب ليش جبتو لعندي، انتطرو ليجي).
سافرت بعدها، وفي أول إجازة لي ذهبت للنقابة وخضعت لدورة توجيهية واستلمت بطاقتي، ومنها ذهبت للمالية في المحافظة التي أتبع لها، قدمت تصريحا بعدم مزاولة المهنة على الأراضي اللبنانية بداعي السفر، طلب الموظف مني صورة عن إذن مزاولة المهنة وعند إبداء تعجّبي قال هي ضرورية. أنهيتُ الإجراءات وعدتُ لقريتي أحلم بأيام إجازتي.
لم يمضِ الأسبوع حتى وصلت رسالة عبر LIBANPOST موقّعة من مديرة المالية في المحافظة، ولم تكن سوى غرامة مالية بنصف مليون ليرة لأنني تأخرت شهورا عن التصريح للمالية بعد صدور إذن مزاولة المهنة من وزارة الأشغال.
لملمتُ نفسي وأوراقي وأدلتي وذهبتُ للمالية مجددا، هذه المرة كان المكتب ممتلئا بالموظفين الإنغماسيين، وقفت أمام ابو منقوشة وكان قد نظّف مكتبه من السكر وحسّن هندامه، ذكّرته بنفسي فلم يتذكر، بسطت له الشرح وغمزت من قناته بأنه السبب في تغريمي، فانتفض مطالبا بدليل أو إثبات. تركته وذهبت للمديرة عرضت لها قضيتي وأبرزت لها طلبي القديم الذي رفض الموظف إستلامه فتبسّمت وقالت لي: (ما لقيت إلا هذا الحمار تقدّم طلبك عندو؟). ثم أشارت إلي بتودّد أن أتريّث في الدفع حتى كانون الثاني حيث تنوي الوزارة طرح تخفيضات كبيرة للمخالفين لتشجيعهم على تسوية أوضاعهم. وهكذا كان دفعت أقل من نصف المبلغ لمخالفة لم أرتكبها ونسيت القصة.
ما أعاد القصة إلى ذهني بعد أكثر من عشر سنوات رؤية اعتصام لموظفي القطاع العام يطالبون بإقرار سلسلة الرتب والرواتب وربما كانوا محقين في بعض مطالبهم وهذا شأنهم، ولكن أن يتقدمهم صاحبنا (أبو منقوشة) ويهتف أمامهم مطالبا بزيادة أجره رغم تقصيره ... هذا شأن آخر... هنا يحُسن الصمت