أرجَأت الحكومة مجدّداً قرارَها بشأن دفعِ الرواتب بعد إبطال قانون الضرائب تمويلها، وذلك وسط مؤشّرات إلى أزمة رئاسية حاوَل رئيس مجلس النواب نبيه بري التخفيفَ من وطأتها متمسّكاً بوجوب دفعِ السلسلة لمستحقّيها ومحذّراً من أنّ ما يجري محاولة لقتلِ اتّفاق الطائف. فيما بدا أنّ التأجيل الحكومي يستبطن رغبةً لدى المعنيين بإشراك رئيس الجمهورية في القرار رغم أنّه نأى بنفسه عن هذا الأمر، عندما رفضَ ترؤسَ جلسة مجلس الوزراء الأحد لبَتّ مصير السلسلة ووارداتها. علماً أنّ بري أوحى بأنّ إقرار الموازنة قد يتأخّر ستة أشهر إضافية إلى حين إنجاز قطعِ الحساب الذي يستغرق هذه المدّة، ما دفع بعضَ المراقبين إلى القول إنّ قطع الحساب يعد بـ»قطع» الموازنة، والتساؤل حول مصير موازنة سنة 2018. وبدا لهؤلاء المراقبين أنّ هناك خلافات جدّية بين أركان السلطة، فكلّ موقع دستوري يرمي الكرة في ملعب الآخر، ولكنّ الكرة تسقط على رؤوس اللبنانيين، سواء كانوا موظّفين أم أساتذة أم معلّمين. وفي كلّ الحالات، ما جرى في جلستَي الأحد والثلثاء الماضيَين أكّد مجدّداً، ليس عمقَ الخلافات الموجودة فقط، إنّما مدى التخبّط الذي تدور فيه الدولة. وكلّ ذلك في وقتٍ تتصاعد المطالب النقابية وتتّسع حركة الإضرابات.
على رغم الأجواء العامة المتجهّمة في البلاد نتيجة المخاوف على مصير السلسلة، وربما الحكومة، أجمعَ وزراء لدى دخولهم الى جلسة مجلس الوزراء في السراي الحكومي برئاسة الرئيس سعد الحريري أنّ «الحكومة متماسكة وصامدة ولا خوف على استقرارها»، فيما لاحظ وزير الداخلية نهاد المشنوق «أنّ هناك مبالغة في الكلام عن انّ هذا الاستقرارفي خطر».

لكنّ هذه التطمينات الوزارية تعارضَت مع ما انتهت إليه الجلسة من تأجيل جديد لقرارها في شأن مصير السلسلة، بعد تعليق المجلس الدستوري قانون الضرائب، الى جلسة جديدة تعقَد غداً الخميس في قصر بعبدا.

إلّا انّ هيئة التنسيق النقابية التي تقف لها بالمرصاد حسَمت موقفَها فقرّرت المضيَّ في الاضرابات والتظاهرات اليوم وغداً والإبقاءَ على اعتصامها المفتوح غداً الخميس امام القصر الجمهوري مواكَبةً لجلسة مجلس الوزراء، في مشهد لن يختلف كثيراً عن مشهد ساحة رياض الصلح امس ولا عن اليوم الذي سبقه.

وقالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» بعد الجلسة: «الاجواء ليست متوترة بل اجواء متهيّبة موضوع الواردات التي من دونها ولو دفَعنا السلسلة، وهذا ما سنفعله هذا الشهر، سنجد انفسَنا بلا واردات عاجزين عن الاستمرار. وبالتالي لا نريد ان نصل الى وضع «يوناني» ونتذكر انّ اليونان خفّضت 50 في المئة من الرواتب نتيجة ازمتِها المالية».

وإذ اختصرت هذه المصادر الخيارات بعبارة واحدة هي: «مِش رمانة سلسلة بل هي قلوب مليانة حول التشريع وقطع الحساب»، قالت في المقابل: «سنَحسم موضوع إرسال قانون الضرائب قبل يوم استحقاق السلسلة في نهاية الشهر، إضافة الى شكل الإحالة: هل نسحب الموازنة أم نرسِل مشروع قانون يتضمّن كلّ الضرائب التي اوردناها سابقاً مع التصحيحات التي طلبها المجلس الدستوري من دون الخضوع له بالتفسير الذي يقول انّ الضرائب يجب ان تكون في الموازنة فقط. كلّا، هذه غير مقبولة من احد، والمجلس النيابي هو الذي يفسّر الدستور ولا أحد غيره».

برّي

وأكّد رئيس مجلس النواب نبيه بري في دردشة مع اعلاميين أمس في دارته في مصيلح انّ صلاحية تفسير الدستور هي للمجلس دون سواه، وقال «إنّ سلسلة الرتب والرواتب حقّ وواجب ليس من اليوم ولا من الامس إنّما منذ سنوات، ولو انّ الدولة كانت تدفع بدل غلاء المعيشة لَما وصلنا الى ما نحن عليه اليوم».

وعلّقَ بري على قرار المجلس الدستوري بإبطال قانون الضرائب فقال: «القضاء على حقّ حتى لو لم يكن على حقّ، وهذه المرة كان على حقّ وليس على حق». واعتبر «انّ ما يحصل هو تجاوُز وتجَرّؤ على المجلس النيابي واعتداء على صلاحيات رئيس المجلس وخرقٌ لاتفاق الطائف، بل بداية قتلِه».

وأكد «أنّ قطع الحساب ليس من مسؤولية المجلس النيابي وإنّما من واجبات الحكومة، وقال: «علمتُ انّ موضوع قطع الحساب قد يستغرق سبعة اشهر لإنجازه وهو ما قد يعوق إقرار الموازنة». ووصفَ علاقته مع رئيس الجمهورية بأنّها «اكثر من جيّدة».

وعمّا يُحكى عن تطيير الحكومة وتلويح رئيسها بالاستقالة على خلفية العلاقة مع سوريا، قال بري: «هِز عصا العز ولا تضرب فيه». وسأل: «هل مِن عاقل يمكن له ان يتخيّل انّ لبنان الذي يستضيف مليوناً ونصف مليون نازح سوري، ولا يريد البعض التكلّم مع الحكومة السورية».

«القوات»

وقالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» انّ الوزير غسان حاصباني تولّى مهمة إيصال وجهة نظر»القوات» خلال جلسة أمس والتعبير عنها، فاعتبَر «انّ السلسلة حق للموظفين، ولكن يجب تحصينها من خلال تأمين المداخيل المطلوبة لها بطريقة لا جدل قانونياً ودستورياً فيها، في اعتبار انّ الدفع الفوري من دون تأمين الموارد قانوناً سيؤثر سلباً على تصنيف لبنان والوضع المالي عموماً».

ورأى حاصباني «انّ تعليق المادة 78 من الدستور هو موضع نقاش، والصلاحية باقتراح تعديله تعود إلى رئيس الجمهورية»، داعياً إلى انتظار عودته لعقدِ جلسة لمجلس الوزراء برئاسته «لبتّ هذا الموضوع وإحالته عبر مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، لأنّ ذلك ليس من صلاحية مجلس الوزراء ضمن العقد الاستثنائي».

ولفتَ إلى «أهمّية تضمين الضرائب ضمن الموازنة العامة»، مذكّراً بأنه كان سبقَ لوزراء «القوات» ان طالبوا بذلك ضمن النقاش حول الموازنة، واعتبَر «انّ التمويل الدائم للسلسلة وتعزيزها ضمن الموازنة يشكّل حصانةً للوضع المالي»، وأكّد «انّ المطلوب دفعُ السلسلة وحماية الاستقرار النقدي».

البلد مشلول

ولليوم الثاني، شلَّ موظفو القطاع العام ومعلّمو المدارس البلد، والتزَمت الادارات العامة والمستشفيات الحكومية والمدارس الرسمية قرارَ الاضراب. ونفّذ المعترضون اعتصاماً امس في رياض الصلح تزامناً مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء.

وأكد رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر خلال الاعتصام «التصعيد، إذا لم تقرّ الحكومة الدفعَ الفوري للسلسلة، بما فيه الإضراب العام المفتوح بالتنسيق مع «هيئة التنسيق» النقابية».

ومن جهتها هيئة التنسيق النقابية حمَّلت الحكومة «المسؤولية الكاملة عن الشلل التامّ الذي اصاب مؤسسات الدولة ومرافقَها العامة»، مؤكّدةً انّ اجتماعاتها «ستبقى مفتوحة لدرس الخطوات التصعيدية». وأعلنَت استمرارها في الإضراب، داعيةً إلى الاعتصام غداً عند مفترق القصر الجمهوري مواكبةً لجلسة مجلس الوزراء أثناء انعقادها الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وذلك حتى دفعِ الرواتب على الأساس الجديد.

وبدوره الاتحاد العمّالي العام دعا جميعَ العمال والموظفين إلى الاستمرار في الإضراب العام والشامل في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة والمستشفيات الحكومية في كلّ الأقضية اللبنانية وكلّ البلديات، اليوم وغدًا الخميس، وخصوصاً في المؤسسات العامة».

جدل حول «الدستوري»

وإلى ذلك، استمرّ الجدل في شأن مندرجات تنفيذ قرار المجلس الدستوري. وفي حين يقول البعض إنّه يمكن سنُّ قوانين للضرائب من خارج الموازنة، يؤكّد آخرون انّ في ذلك خروجاً على قرار المجلس الدستوري الملزم لكلّ السلطات.

وقال الرئيس السابق للمجلس الدستوري غالب غانم لـ«الجمهورية» إنّ «وضع الضرائب في إطار قوانين من خارج الموازنة يعرّضها مجدّداً للطعن».

وأضاف: «وفقاً للدستور فإنّ القرارات التي تصدر عن المجلس الدستوري ملزمة لجميع السلطات وحتى للقضاء، ولذا يجب الالتزام بقرار المجلس وتطبيقه بحذافيره حتى لو افترَضنا أنه يتضمّن مبادئ في غير محلّها، لأنّ عدم التقيّد بهذه القرارات يجعل كلّ شيء مباحاً». وأضاف: «قرار المجلس الدستوري واضح، ويوصي بضرورة إقرار الضرائب من ضمن الموازنة». (تفاصيل ص 11)

عون

خارجياً، ينهي الرئيس عون اليوم زيارته لفرنسا التي كانت ناجحة بروتوكولياً، إذ لاقى حفاوةً مميّزة طول الايام الثلاثة، ولكن على الصعيد العملي، بدا واضحاً عدم حصول لبنان على التزامات فرنسية جديدة خارج الالتزامات التقليدية التي سبق ان أُعلِن عنها، لا بل بَرز تبايُن واضح بين عون ونظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون حيال موضوع النازحين السوريين، إذ فيما طالب عون بعودتهم فوراً الى سوريا لوجود مناطق آمنة، ربَط الرئيس الفرنسي هذه العودة بالتسوية السياسية للحرب في سوريا، وهي تسوية قد تأتي أو لا تأتي، وفي كلّ الحالات لن تأتي غداً.

ولكنّ موقف ماكرون هذا جاء مختلفاً عن موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي دعا إلى توطين النازحين في البلدان المجاورة لسوريا ودمجهم في المجتمعات المضيفة.

الى ذلك، قال عون في كلمة امام الجالية اللبنانية في فرنسا «إنّ النزوح الكثيف مشكلة، ونَعمل مع المؤسسات الدولية والصديقة لحلّ الموضوع. هذا الحمل نقلَ كثافة السكان من 400 نسمة في الكليومتر المربع الى 600، ولا أحد يحمل عنّا شيئاً»، واعتبَر أنّ «هذا الحمل الثقيل خطر، لأنّ العبء الاقتصادي صعب وكذلك الأمني، ونحن لا زلنا نحارب الخلايا النائمة وواعون لهذا الموضوع، والاجهزة الامنية تعمل بجهد، وواعون أيضاََ للأزمات الاقتصادية المتتالية التي أصابتنا، والعجيبُ أنّنا لا زلنا نتحمل ولكن الى متى؟

أتينا الى فرنسا ووجَدنا تفهّماً لهذه المواضيع، نتمنى أن يكونوا تفهّمونا ايضاً في الامم المتحدة، ويجب جمعُ الجهد للتخلّص من هذه الأزمة بسبب الحرب السورية».

حمادة لـ «الجمهورية»

أمّا داخلياً، وفي انتظار ما سيعلنه باسيل مساء غدٍ من مواقف، خصوصا بعد الضجّة التي اثيرَت في بيروت حول لقائه نظيرَه السوري وليد المعلم في نيويورك، ظلّت اصداء هذا اللقاء تتردّد في الاوساط السياسية، وقال الوزير مروان حمادة لـ«الجمهورية»: «إستعداء العالم العربي، والموقف المعادي من المملكة العربية السعودية والخليج منذ فترة، ثمّ هذا التطبيع مع النظام السوري، لن يؤدي الّا الى تدهور الوفاق السياسي وانهيار الوضع الاقتصادي في لبنان.

من هنا لقاء باسيل ـ المعلم يأخذ منحى غيرَ الذي اخذته زيارات الوزراء المصنّفة شخصية وفنّية الى دمشق، ويأتي مكمّلاً لجملة تصريحات ومواقف تصبّ كلّها في خانة الابتعاد عن سياسة «النأي بالنفس» عن روحية البيان الوزاري ونصّه وحتى عن خطاب القسَم».

وردّاً على سؤال قال حمادة: «السعودية لم تهجّر مليون ونصف مليون سعودي الى لبنان عبر القتل والارهاب، بل تستضيف مئات الوف اللبنانيين، وتعود على لبنان منذ عقود طويلة بالخيرات والزيارات والودائع والاستثمارات.

فلا مجال هنا للمقارنة بين العلاقة مع السعودية وبين تصرّف النظام السوري. كذلك، لا علاقة للقاء باسيل ـ المعلم بعودة النازحين لأن لا عودةَ لهم قبل تأمين مناطق آمنة في ظلّ حلّ سياسي، امّا الكلام عن تنسيق او غير تنسيق فالنظام السوري هجَّرهم أساساً لأنه يريد التغييرَ في ديموغرافية سوريا. فالتصرّف «الخارجي» الذي يؤثّر على الوفاق الداخلي وعلى العلاقات العربية، مُنافٍ للمصلحة اللبنانية، خلافاً لِما قاله الوزير باسيل في ردِّه على الوزير المشنوق».

وكان حمادة قد قال قبَيل مشاركته في جلسة مجلس الوزراء: «لا خوف على السنة الدراسية، الخوف على الدولة، خصوصاً من باب وزارة الخارجية، والخطر على لبنان اقتصاديّ نتيجة السياسات الخارجية الخاطئة واستعداء العالم العربي».

«الكتائب»

أمّا حزب الكتائب فرأى في اجتماع باسيل بالمعلّم «انزلاقاً خطيراً نحو ضربِ السيادة ومبدأ الحياد، وتطبيعاً مع النظام السوري، ونسفاً للبيان الوزاري، وتشويهاً لصورة لبنان على الصعيد الاقليمي والدولي، وتأكيداً للسيطرة الكاملة لمنطق السلاح غير الشرعي». واعتبَر «انّ كلّ ذلك، يؤكد مجدداً صوابية مواقفِه الممتدة من مرحلة الانتخابات الرئاسية وحتى اليوم» .

«المستقبل»

واعتبرت كتلة «المستقبل» أنّ لقاء باسيل ـ المعلم وغيره من اللقاءات المنفردة الأخرى كان بمثابة تجاوُز للأصول والاعراف الحكومية، وهي تشكّل مخالفةً صريحة وفاقعة للبيان الوزاري للحكومة، وكذلك اعتداءً صارخاً على الحكومة ورئيسها وعلى التضامن الحكومي داخلها»، وأيَّدت «الموقف الذي أعلنَه وزير الداخلية نهاد المشنوق في هذا الصدد، والذي دعمته فيه أيضاً مواقف كتلٍ نيابية أخرى ممثّلة في الحكومة».

«8 آذار»

في المقابل، استغرَب مصدر وزاري في 8 آذار عبر «الجمهورية» الحملة على باسيل، وسأل: «هل نريد معالجة مشكلة النازحين السوريين أم لا؟ إذا اردنا معالجتها فلا بدّ من الحوار مع الحكومة السورية، وكلُّ كلام آخَر هو نوع من تخدير الناس حول هذه المشكلة، كذلك إذا اردنا معالجة بعضِ ازماتنا الاقتصادية، وخصوصا موضوع المنتجات الزراعية التي نصدّرها الى سوريا، وغداً عندما تفتح طريق الترانزيت سنصدّر منتجاتنا الى الدول العربية، فلا خيار امامنا الّا الحوار مع سوريا».

وأضاف: «سبقَ وعانَينا معاً خطر الارهاب وكنّا نقول دائماً لا بدّ من التنسيق مع سوريا لمواجهته، فأين المشكلة إذا التقى الوزير باسيل بالوزير المعلّم؟».

ورأى المصدر «انّ اللبنانيين يريدون عودةَ النازحين الى بلدهم و«مِش مِتل ما بدّو ترامب»، فكلامه عن توطينهم يشكّل خطراً على لبنان اوّلاً. لذلك لا بدّ من الحوار مع الحكومة السورية حول هذا الملف وحول الملفات الاقتصادية المشتركة وما اكثرَها، وحول الاخطار التي تهدّدنا سواء الخطر الإسرائيلي أو الخطر الإرهابي».

«حزب الله»
ودعا عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله الى «اغتنام الفرصة وعدمِ المكابرة في العلاقة مع سوريا التي يجب أن تكون علاقة طبيعية». وذكّرَ الفريق الآخر بـ«أنّ مطلبَه الدائم كان في السابق إقامة علاقات ديبلوماسية وفتح سفارات»، متسائلاً: «أين المشكلة إذا ما التقى وزير خارجية مع وزير خارجية»؟