الحكومة أمام الخيار الصعب، إمّا ان تكون في قرارها حول سلسلة الرتب والرواتب في مواجهة الناس، وثمّة مقدّمة تمهيدية لهذه المواجهة تجلّت في الاضراب الذي شَلّ الادارات امس، او في مواجهة نفسها، عبر خضوعها لامتحان البحث عن مخرج من المأزق الذي وقعت فيه وأوقعت معها البلد كله، جرّاء خطيئة الضرائب التي ارتكبت بحق اللبنانيين واستسهلت فيها مَد اليد على جيوبهم. واللافت في موازاة هذا المأزق، هو الغيوم السياسية التي تولّدت عن قرار المجلس الدستوري، وتراكمت بشكل كثيف ما بين بعبدا وعين التينة، وترافقت مع تبادل قصف غير مباشر في الاتجاهين. هذا في وقت كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يقوم بزيارة دولة الى فرنسا ويلتقي الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي وعد بتنظيم «مؤتمر للمستثمرين لمساعدة لبنان من أجل اعادة إطلاق الاقتصاد»، وأكد «انّ سياسة النأي بالنفس إزاء النزاعات أفضل وسيلة للحفاظ على استقرار لبنان، ولكن كي نتمكّن من حل مسألة النازحين نحن بحاجة الى حل سياسي».
أوّل ما يتبادر الى الذهن في موازاة المأزق الحكومي ربطاً بإبطال الضرائب، هو السؤال: ماذا أمام الحكومة لتفعله؟ هل ثمة مخرج فعلاً؟ وماذا لو تعذّر الوصول اليه؟

وما العمل في هذه الحالة؟ ثم لنفرض ان وُجد هذا المخرج، فأين يقع؟ وايّ باب يمكن ان تَلج منه الحكومة لتعويض النكسة التي مُنيت بها بتطيير المجلس الدستوري السلة الضريبية، ووضعتها تحت ضغط الناس والموظفين والخزينة العاجزة عن تغطية أكلاف السلسلة؟

هو ثقل إضافي يصيب الحكومة، في وقت هي مأزومة أصلاً في العلاقات المشتعلة بين مكوناتها، وها هي تداعيات اللقاء بين وزير الخارجية جبران باسيل بنظيره السوري وليد المعلّم مستمرة، وتكشف مزيداً من التفسّخ الحكومي ربطاً بالسجال الساخن بين حليفي «التسوية الرئاسية»؛ أي تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر».

البديهي في هذا الوضع المحيّر سياسياً، والدقيق مالياً وشعبياً، افتراض انّ الحكومة ستدخل الى مجلس الوزراء وفي يدها حبل النجاة من هذا المأزق، الّا انّ هذه الفرضية تندرج في سياق التمنّي لا أكثر، خصوصاً انّ الحكومة نفسها ومنذ تشكيلها الى اليوم لم تقدّم دليلاً واحداً على أنها تملك القدرة على ابتداع الحلول المطلوبة والموضوعية للقضايا الشائكة.

فضلاً عن انّ الاجواء الحكومية السائدة عشيّة جلسة مجلس الوزراء المقررة اليوم، تَشي بارتباك واضح، وضغط كبير تتعرّض له من التحركات المطلبية التي بدأت بإضراب في الادارات أمس، وتستكمل اليوم بإضراب عام. وكذلك ضغط سياسي لبدء السير بقانون السلسلة.

وبرز في هذا السياق مطالبة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحكومة بتطبيق القانون، الّا انه غَمز من قناة المجلس الدستوري بطريقة بالغة الدلالة وتنطوي على اتهامات مبطّنة حينما قال: «انّ حكم المجلس الدستوري لم تأت به الملائكة».

إذاً، على قرار الحكومة في شأن السلسلة اليوم، تَتحدّد صورة البلد. وبحسب الاجواء السائدة فإنّ المخرج المتداول عشيّة الجلسة هو عدم التسبّب بإشعال فتيل الشارع الذي يمكن في حال انفجر بتحركات واعتصامات، ان يخلق تطورات غير متوقعة ويمكن ايضاً ان تذهب الامور الى ما لا تحمد عقباه.

وتبعاً لذلك، فإنّ المخرج المرجّح هو التأكيد على تنفيذ قانون السلسلة ودفع الرواتب للموظفين آخر الشهر الجاري على أساسها، خصوصاً انّ وزير المالية علي حسن خليل اكّد انه أعدّ جداول الرواتب وفق السلسلة الجديدة.

امّا الضرائب فيؤخذ شهر تشرين الثاني المقبل فرصة لإيجاد وتحديد مصادر تمويل السلسلة، علماً انّ خبيراً اقتصادياً قال لـ«الجمهورية»: «كل القضايا التي أشار اليها قرار المجلس الدستوري يمكن ان تقارب بموضوعية كلية وتحلّ بـ 48 ساعة في مجلس النواب».

الجرّاح

وتحدث وزير الاتصالات جمال الجرّاح «عن سيناريوهات عدة مطروحة حول قانون السلسلة الذي اصبح نافذاً، وقد اكد الرئيس سعد الحريري على نفاذه وعلى حق الموظفين بالسلسلة».

وقال لـ«الجمهورية»:»يُدرس حالياً إمكانية ان تدفع وزارة المال الرواتب على الاساس الجديد، وما هي انعكاساتها المالية، وان يتم الاخذ في الوقت نفسه بملاحظات المجلس الدستوري ويعاد صياغة القانون ويرسل الى المجلس النيابي.

وهنا يوجد خياران: امّا ان يرسل بقانون منفصل الى المجلس النيابي يأخذ في الاعتبار ملاحظات المجلس الدستوري، او يُضمّن الموازنة ويُقرّ ضمنها. طبعاً كل سيناريو أمامه بعض العقبات التي تجري محاولات لتذليلها».

ولدى سؤاله: هل يمكن القول انّ الحل سيتولّد عن مجلس الوزراء اليوم؟ اجاب الجرّاح: «إن شاء الله».

قانصو لـ«الجمهورية»

وقال الوزير علي قانصو لـ«الجمهورية»: انّ «مجلس الوزراء سيستكمل اليوم النقاش الذي بدأناه في جلسة الاحد، وكان هناك توجّه بأن تصرف وزارة المال رواتب هذا الشهر على أساس السلسلة شرط ان تكون القوى السياسية مستعدة وعندها ارادة بأن تُنجز إعادة صياغة المداخيل على ضوء ملاحظات المجلس الدستوري، وان تنجز الموازنة وقطع الحساب خلال مدة أقصاها شهر.

اي الدولة تستطيع ان تتحمّل تبعات السلسلة لشهر، وبالتالي بتنا معنيين بأن نرتّب المسائل التي اثارها المجلس الدستوري خلال شهر اذا شئنا التمكّن من الصرف بشكل دائم تبعات السلسلة، والّا تكون الحكومة استطاعت ان تصرف شهراً لا غير».

«التيار»

وأكدت مصادر «التيار الوطني الحر» لـ»الجمهورية» على ضرورة «وضع قطع الحساب والموازنة أولاً، والتي يجب ان تتضمّن كل الايرادات والنفقات بما فيها أي مواد ضريبية يتمّ التوافق عليها والاعتماد على الوَفر المحقق في لجنة المال والموازنة من ضمن الايرادات المطلوبة لتمويل السلسلة».

وشدّدت المصادر على «احترام مبدأ شمولية الموازنة وقطع الحساب المدقّق حسب الأصول من ديوان المحاسبة بموجب المادة ١٩٥ من قانون المحاسبة العمومية، وذلك وفقاً لِما جاء ايضاً في متن قرار المجلس الدستوري، على ان يطرح ايّ تعديل على المواد الضريبية من ضمن الموازنة وليس من خلال قانون مستقلّ، لأنه لا حاجة لذلك طالما أنّ مشروع الموازنة موجود في المجلس النيابي».

السراي

وقالت مصادرالسراي الحكومي لـ«الجمهورية»: «الإتصالات التي تكثّفت على أكثر من مستوى انتهت الى عدد من المخارج التي يمكن القيام بها حكومياً ونيابياً، بعدما سقطت بعض النظريات التي قادت الى سجالات متناقضة في جلسة الأحد الفائت».

وأشارت الى «انّ المساعي التي بذلت وشارك فيها عدد من الخبراء الدستوريين والاقتصاديين، قَلّصت هوامش الخلافات وباتت المخارج المطروحة أقرب الى الواقع».

وأكدت «انّ الحديث عن تجميد تطبيق القانون 46 الخاص بالسلسلة لشهر او شهرين تمّ تجاوزه، والحكومة لن تقدم على هذه الخطوة لأنها ليست هي من تمتلك الصلاحية بذلك، بل مجلس النواب».

البلد مشلول

وحذّر خبير اقتصادي من لجوء الحكومة الى المماطلة، أو ذهابها الى خطوات غير مدروسة لأنها قد تستولد ردود فعل سلبية. وقال لـ«الجمهورية»: «الحلول لا يمكن ان تنتظر اياماً او اسابيع، والحاجة ماسّة للبَتّ بها اليوم قبل الغد، خصوصاً انّ الحكومة ومعها الأجهزة الأمنية المختصة اختبرت رَدّ فعل الشارع والنقابات حتى تلك التي تجاري السلطة سياسياً وحزبياً، وها هي امام جولة جديدة اليوم مع إضراب شامل بالتزامن مع جلسة مجلس الوزراء قبل ظهر اليوم».

ومن المتوقع ان تشهد ساحة رياض الصلح تحركات شعبية، ويستمر الاضراب في الادارات العامة والمدارس الخاصة والرسمية والمصالح المستقلة، علماً انّ يوم أمس شهد التزام الادارات العامة والمستشفيات والمدارس الحكومية وبعض المدارس الخاصة بقرار الاضراب الصادر عن الاتحاد العمالي العام وهيئة التنسيق النقابية.

وسُجّل أمس اكثر من موقف من الهيئات النقابية في القطاعات كافة، يدعو الى الاستمرار في الاضراب ويرفض اقتراح تعليق العمل بالسلسلة لمدة شهر.

الضرائب موضع نزاع

وبرزت مواقف متناقضة لطرفي الانتاج والعمّال وأرباب العمل حيال الضرائب. واذا كان الطرفان سلّما بضرورة وجود ضرائب لتغذية الخزينة، فإنّ لكلّ طرف لاءاته في نوعية الضرائب المطلوبة.

وفي حين تطالب الهيئات الاقتصادية بضرائب لا تؤذي الدورة الاقتصادية، ولا تتضمّن ازدواجاً ضريبياً، يصرّ الاتحاد العمالي على عدم المساس بالفئات الشعبية التي طالبت بإلغاء كل الضرائب التي طالتها في المشروع السابق، بما فيها ضريبة القيمة المضافة.

وقال رئيس الاتحاد العمالي بشارة الاسمر لـ«الجمهورية» انّ الاتحاد «يؤيّد فرض الضرائب على الفئات المقتدرة وعلى الريوع الكبيرة من مصارف وشركات مالية وعقارية ورؤوس الاموال التي سَطت على الأملاك البحرية والنهرية».

ورفض رفضاً قاطعاً ما يتمّ اقتراحه حالياً حول رفع الضريبة على القيمة المضافة الى 12 في المئة، معتبراً انّ النقاش حول الضرائب اليوم هو تهرّب من دفع السلسلة هذا الشهر. (تفاصيل ص 12)

عون في الايليزيه

من جهة ثانية، بدأ الرئيس عون زيارة دولة الى فرنسا إلتقى في مستهلّها الرئيس الفرنسي في قصر الايليزيه، وأجريا محادثات عقدا بعدها مؤتمراً صحافياً مشتركاً، شدّد خلاله ماكرون على انّ «لبنان يجب أن يبقى نموذجاً للتعددية والديموقراطية»، ونَوّه بـ»التقدم الذي أنجز في لبنان منذ انتخاب رئيس».

واذ لفت الى انّ «رئيس الحكومة سعد الحريري يعمل بشكل فعّال لإعادة إطلاق الاقتصاد اللبناني»، أشار الى انّ «لبنان واجه مثل فرنسا ضربات كبيرة من الارهاب»، وحَيّا صمود الجيش اللبناني، مُعلناً عن قرار فرنسي بـ«تعزيز وتقوية الدعم للبنان»، قائلاً: «سنستجيب لحاجات الاجهزة الامنية اللبنانية من أجل تقديم معرفتنا وخبرتنا في مكافحة الارهاب».

وتوجّه ماكرون الى عون بالقول: «فرنسا بحاجة الى دولة قوية في لبنان وهي تشجّع ذلك، وانتخابكم في هذا الخصوص مهم»، وتابع: «لبنان يحمل اليوم عبئاً كبيراً وثقيلاً بسبب أزمة النازحين ونريد العمل بشكل فعّال حول هذه المسألة، والسلطات اللبنانية تثبت عن التزام وشعور أخلاقي كبير، لكن نريد إيجاد حل سياسي للأزمة السورية».

وقال: «نودّ أن نعمل لتنظيم مؤتمر للمستثمرين لمساعدة لبنان من أجل اعادة إطلاق الاقتصاد»، مشدداً على انّ «الحفاظ على سياسة النأي بالنفس إزاء النزاعات أفضل وسيلة للحفاظ على استقرار لبنان، ولكن كي نتمكن من حل مسألة النازحين نحن بحاجة الى حل سياسي».

من ناحيته، أعلن الرئيس عون انّ «الجيش الاسرائيلي يستمرّ في انتهاك الاراضي اللبنانية»، لافتاً الى انّ «تطبيق القرار 1701 أولوية بالنسبة للبنان للحفاظ على السلام في المنطقة». وأكّد «ضرورة تنظيم عودة النازحين الى بلادهم لا سيما أنّ معظم المناطق في بلادهم أصبحت آمنة»، لافتاً الى انه «يجب أن تتمكن الأمم المتحدة من الوصول الى حلّ والعمل على عودة النازحين الى بلادهم إبتداءً من الآن».
وأعلن الرئيس عون أنه وجّه دعوة الى الرئيس الفرنسي وزوجته لزيارة لبنان في الربيع المقبل.