تسارعت الاتصالات السياسية على اكثر من اتجاه مساء امس لإخراج جلسة الحكومة اليوم من «عنق زجاجة» «الكباش» السياسي المفتوح على مصراعيه بين الرئاسة الاولى من جهة، والرئاستين الثانية والثالثة من جهة اخرى، على خلفية ملفات داخلية وخارجية منفصلة.... وحتى ساعة متقدمة من المساء كانت الاجواء «ضبابية» حيال خيار من ثلاثة سيتخذه مجلس الوزراء اليوم في ملف السلسلة، مع العلم ان المخارج القانونية والمالية باتت متاحة وقابلة الصرف، بما يتيح خروج الاطراف كافة  من «المأزق» اذا ما توافرت النيات الحسنة لدى الجميع لاخراج الملف المعيشي من دائرة التجاذبات السياسية.
في هذا الوقت بدأ رئيس الجمهورية ميشال عون زيارة دولة الى فرنسا، تحمل ابعادا رمزية في غاية الاهمية بعد سنوات المنفى القسري هناك، فمن «لاجىء» سياسي الى رئيس دولة الكثير من الامور تغيرت، وتظهر ذلك في باريس ترحيبا لافتا في الشكل والمضمون، حيث دام اللقاء الثنائي بين الرئيسين نحو الساعة قبل ان ينضم الوفدان الرسميان الى المحادثات، وبحسب المعلومات الواردة من باريس فان ملف الاستقرار الداخلي في لبنان استحوذ على قسم كبير من النقاش، التعاون لمكافحة الارهاب، ودعم الجيش اللبناني، وسبل دعم لبنان اقتصاديا تصدرت جدول الاعمال، فوعد الرئيس الفرنسي بعقد قريب لمؤتمر باريس 4. اما ملف النازحين السوريين فكان «الطبق الرئيسي» على طاولة البحث، وعلى عكس ما اوحت به التصريحات العلنية للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، بدعوة لبنان للحفاظ على سياسية «النأي» بالنفس في الملف السوري، فان ما جرى في «الكواليس» لا يوحي بوجود معارضة فرنسية لفتح قنوات اتصال لبنانية- سورية، اذا كانت تساهم في حل ازمة النزوح...
وفي هذا السياق، لم يلمس الرئيس عون وجود «خارطة طريق» دولية لمعالجة ملف النزوح السوري، على الرغم من حديث الرئيس الفرنسي عن مؤتمر تنظمه الامم المتحدة قبل نهاية العام، وعلى نقيض ما «لمسه» في نيويورك من سياسة اميركية «غامضة» تثير القلق حيال الملف السوري، فان ما سمعه في باريس مقاربة مختلفة، حيث بات الموقف الفرنسي اكثر واقعية لجهة التعامل مع بقاء النظام في دمشق. وتجزم «الاجواء» الباريسية ان الرئيس لم يتلق من الرئيس الفرنسي اي اشارات تفيد باعتراض باريس على مقاربته الاخيرة تجاه التعامل مع الملف السوري، خصوصا ان فرنسا نفسها تعمل على خط فتح قنوات اتصال خلفية مع دمشق، وهي «متوجسة» اصلا من سياسة الرئيس الاميركي دونالد ترامب في اكثر من ملف ومنها مقاربته «الوظيفية» المبنية على تقاسم المصالح مع روسيا، وما يمكن فهمه من اجواء اللقاء ان كلام ماكرون عن ضرورة القيام بما يخدم المصالح الوطنية اللبنانية، خصوصا في ملف النزوح السوري، لامس حد التشجيع للرئيس عون على المضي قدما بأي خطوة لتفكيك هذه «القنبلة الموقوتة» التي تهدد لبنان ديموغرافيا، وامنيا، حتى لو اقتضى ذلك فتح قناة تواصل مع الحكومة السورية، وذلك في ظل حرص الدولة الفرنسية على تعزيز وجود وبقاء المسيحيين في لبنان، وهو امر شدد عليه كثيرا الرئيسان عون وماكرون في مقاربتهما للاوضاع في المنطقة ولبنان...
 

 

 المؤتمر الصحافي


وفي المؤتمر الصحافي المشترك اكد ماكرون على حرص فرنسا وتشجيعها على قيام دولة قوية لضمان الامن على المدى الطويل. واشاد بتفاني الجيش اللبناني في حربه على الارهاب، متعهدا بالعمل مع لبنان والامم المتحدة على مواجهة ازمة اللجوء السوري. وهو امر اكد عليه الرئيس عون من خلال التأكيد على اهمية العودة الامنة للنازحين الى بلادهم، مشددا على ان الحرب في سوريا باتت قريبة من وضع اوزارها، وبوادر الحل السلمي بدأت تلوح في الافق. وقال «وننتظر نجاح المفاوضات»، كما اكد انه اثار موضوع الصراع العربي- الاسرائيلي حيث ما زالت اسرائيل تخرق السيادة اللبنانية في تحد فاضح للقرارات الدولية... ولاحقا اكد الرئيس الفرنسي في عشاء اقيم على شرف حضور رئيس الجمهورية، ان فرنسا ستساعد اللبنانيين في ملف النازحين لان وجود هذا العدد الكبير لا يمكن تصوره، وستحاول باريس ارساء السلام في سوريا لاعادتهم الى بلادهم.. في المقابل اكد الرئيس عون ان لبنان لن يسمح ابدا بالتوطين.
 

 «مصير السلسلة»


وعلى وقع استمرار الاضراب في المرافق العامة والمدارس اليوم، تنعقد جلسة الحكومة للبحث في المخارج المتاحة «لمأزق» الغاء المجلس الدستوري قانون الضرائب. وفي هذا السياق، اكدت اوساط وزارية بارزة ان مجلس الوزراء يبحث اليوم في ثلاثة خيارات، فاما تدفع السلسلة ثم يبحث لاحقا عن مصادر للتمويل، او تدفع مبدئيا هذا الشهر على ان يتوقف الدفع الشهر المقبل اذا لم يتم حل مشكلة الواردات، والحل الثالث هو تعليق السلسلة حتى تأمين الضرائب. وفي ظل الاشتباك السياسي بين رئيس المجلس نبيه بري والرئاسة الاولى بعد «غمز» الاول من «قناة» دوائر القصر الجمهوري واتهامها «ضمنا» بالتأثير في قرار المجلس الدستوري، عبر القول ان قراره لم تأت به «الملائكة»، يتجه وزير المالية علي حسن خليل الى اقتراح «حل» للخروج من «المأزق» في جلسة اليوم من خلال دفع رواتب الموظفين هذا الشهر وفق جداول السلسلة الجديدة، بعدما أنجزت دوائر  وزارة المالية هذه الجداول وباتت جاهزة لعملية تحويلها في اوقاتها المعتادة، على ان تقدم الحكومة مشروع قانون بالتعديلات التي طلبها المجلس الدستوري في المادّتين 11 و17 في قرار الطعن. وهذا يعني الابقاء على الضريبة المقررة على المصارف وشركات الاموال، وتذهب الحكومة به إلى المجلس النيابي لطلب إقراره، مع وعد من الرئيس بري بعقد جلسة «فورية» لتمرير مشروع القانون....
 هذا المخرج ترى فيه تلك الاوساط حلا للمعضلة القائمة خصوصا ان مشكلة «قطع الحساب» التي تحول دون اقرار الموازنة، لا تزال عالقة، لأن تعليق المادة 87 من الدستور لتمرير الموازنة دون قطع الحساب، يبدو دونها عقبات كثيرة في ظل رفض فريق سياسي وازن لهذا الاقتراح، وهي تحتاج اصلا الى ثلثي المجلس لتعليقها. ولذلك اذا كانت «النوايا» السياسية «صافية»، فان الحل القانوني يبدو متاحا، لان الربط بين فرض الضرائب الجديدة واقرار الموازنة، ليس صحيحا، فالسوابق تؤكد ان المجلس النيابي شرع الضرائب بشكل منفصل كما جرى في آخر جلسة تشريعية عندما أقرّ قانون الضرائب على الأنشطة البترولية، وقانون ضريبة القيمة المضافة. 
 

 «الكباش» السياسي


في غضون ذلك، يبدو «الكباش» السياسي بين الرئاسة الاولى والثانية طويل الامد، والكل يدرك ان «شهر العسل» بين الطرفين لم يدم طويلا لا قبل دخول الرئيس عون الى بعبدا ولا بعده، لكن الخلاف سيبقى على ملفات داخلية وهو محكوم بسقف تلاق محتوم على السياسة الخارجية، وتدخلات «حليف الحليف» عندما تلامس الامور «الخطوط الحمراء»... لكن الازمة المستجدة في العلاقة بين الرئاستين الاولى والثالثة لها ابعاد أخرى وستحتاج الى مقاربات جديدة مع الرئيس الحريري بعد عودة رئيس الجمهورية من فرنسا. واذا كان وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق قد تولى رفع السقوف السياسية باتهامه وزير الخارجية جبران باسيل بخرق البند الثالث من التسوية الرئاسية بعد لقاء نظيره السوري وليد المعلم في نيويورك، فان اوساط تيار المستقبل لا تتوقع ان تذهب الامور مع رئيس الجمهورية الى حد «القطيعة» او الازمة المفتوحة التي تهدد الاستقرار السياسي في البلاد، لكن الحريري عاتب على الرئيس لاتخاذه خطوة علنية على هذا القدر من الاهمية دون التشاور مسبقا مع رئيس الحكومة، مع العلم انه يعرف ان قنوات الاتصال «غير الرسمية» مفتوحة مع الجانب السوري، وينتظر رئيس الحكومة عودة الرئيس لوضع الامور في «نصابها».
في المقابل، تشير اوساط التيار الوطني الحر الى ان حديث وزير الداخلية عن خروج الوزير جبران باسيل عن مقتضيات التسوية الرئاسية، كلام لا معنى له في السياسة، فلبنان ليس جزيرة معزولة عن محيطه، والتطورات تفرض ادخال تعديلات على بعض ما تضمنته هذه التسوية، دون اسقاطها، ثمة ثوابت داخلية لم يتخل الرئيس والتيار الوطني الحر عنها ولن يفعلا ذلك، وجود الرئيس الحريري على رأس الحكومة يمثل اهمها، كما يعرف تيار المستقبل ان الكثير من الملفات لا تشكل قناعة لدى الرئيس، لكنه وافق عليها «لحماية» «التيار الازرق»، وملف الانتخابات خير شاهد على ذلك، وكذلك الكثير من التعيينات.
 

 «لا شروط سورية»


ومن هنا تتوقع تلك الاوساط، ان تشهد المرحلة المقبلة نقاشا سياسيا حول معنى «النأي بالنفس» في ظل التطورات المتسارعة في سوريا، لا توجد رغبة لدى رئيس الجمهورية وفريقه السياسي في احراج رئيس الحكومة ودفعه الى خطوات «شخصية» هو غير قادر على اتخاذها الان، ولكن هذا لا يعني ان لا يتم البحث عن ايجاد حل لازمة النزوح... ووفقا للمعلومات فان لقاء باسيل - المعلم جاء ترجمة لنقاشات معمقة ذات طابع غير رسمي  قام بها وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية بيار رفول في دمشق، وتبين خلالها ان الجانب السوري ليس في صدد المطالبة بأثمان سياسية من الجانب اللبناني، ويتفهم طبيعة الظروف الحاكمة لطبيعة التوافق السياسي الذي انتج الحكومة، لكن بحث مسألة اللاجئين يحتاج الى قناة اتصال معينة تقوم بدراسة واقع هؤلاء والبحث في كيفية اعادتهم الى سوريا، وما قام به الوزير باسيل خطوة كانت ضرورية في الشكل تجاه الجانب السوري لإعطاء دفع لهذه القضية التي لا تعتبر خروجا عن سياسة «النأي» بالنفس، فهل ثمة من ينتظر من لبنان اتخاذ موقف من الحرب السورية الان وهي تقترب من نهايتها؟ اللقاء ليس اعلاناً عن الوقوف مع محور ضد آخر، انه سياق طبيعي لمواكبة تطورات لم تعد غافلة على احد، ولم تعد سياسة الانكار تفيد في هذا السياق، ومن مصلحة رئيس الحكومة ان يتولى الرئيس هذه المهمة كي يرفع عنه حرجا داخليا وخارجيا...