أولئك الذين يحترفون الضرب في الخاصرة عند كل استحقاق أو مفترق. هو يعرفهم جيدًا، يعرفهم بالإسم، ويعرف أنهم يتوقون لمشهديات كثيرة، جُلها يتمحور حول سحقه سياسيًا ووطنيًا، ناهيك طبعًا عن مماحكات شبه يومية لاستنزافه وليّ ذراعه.
كان عاديًا بالنسبة إلى هؤلاء أن يخرج قتلة العسكريين بالحافلات الفارهة، وأن يرافقهم الحنان المستجد خوفًا من خشونة قد يُمارسها التحالف الدولي بوجه الأطفال والشيوخ والحوامل. كان الحدث برمته أشبه بفضيحة مدوّية لا تقبل التدوير أو الاختباء، وقد تجاوزت بفجاجتها كل تحليل أو بحث حول شراكة مفترضة ساهمت في خلق هذه التنظيمات وتغذيتها وتوزيع أدوارها.
دم العسكريين يتحمله نهاد المشنوق دون سواه. يتحمل مسؤولية تطيير الانتخابات إن طارت، ويتحمل مفاعيلها إن وقعت. كلما التزم النص وسارع لإنجاز الفرعية في كسروان وطرابلس، ضغطوا لتأجيلها وطيّها، وإذا مال إلى مرادهم وأسبابهم الموجبة عاجلوا إلى رجمه واتهامه بكل موبقات الأرض. هم أنفسهم. هؤلاء الأذكياء الخبثاء. يحلّقون في الظلام. يضربون بلا هوادة. ويريدون لنهاد المشنوق أن يستحيل جثة سياسية هامدة.
أحد أبرز المدافعين عن حصافته ورجاحة عقله وبراغماتيته السياسية والفكرية انقلب فجأة إلى استثمار كل متحرك يصب في قدحه وذمه. ما عليك سوى أن تبحث عن السبب. والسبب هنا لا يحتمل المواربة: يريدون وزير داخلية على قياسهم، ونهاد قياسٌ هجين. لا تنفع معه التغريدات النارية. ولا القصف العشوائي أو المركّز. ينفع أن تحاوره بهدوء، أن تتفهم خصوصية دوره وحساسية موقعه، وأن تدرك تمام الإدراك أن قراره يخضع لميزان الذهب. ميزانٌ يُتيح له أن يحط في دارك وأن يمالحك بطعام بيتك، كما يتيح أن يحط في دارهم ودارنا وعين دارة. لا فرق. المهم أن يحافظ الميزان على توازنه دون التعريج على كبوات غير محسوبة.
لم يكن نهاد المشنوق متحمسًا للبطاقة الممغنطة. تحدث عن صعوبة تنفيذها وعن الوقت الضاغط. لكنهم أصروا على إقرارها وإنجازها، فسارع إلى حيث يريدون، وهنا حلت الطامة الكبرى: تراضي أو مناقصة؟ بيومترية أم ممغنطة؟ تسجيل مُسبق أو حوار طرشان؟ ثم ماذا عن الانتخابات، هل ستبقى في موعدها؟ هل نذهب نحو التأجيل أو التقريب؟ لا يشعرون بأي بأس طالما أنهم جميعًا يتصارعون في ساحة نهاد المشنوق. يريدون ولا يريدون. وفي النهاية هو وحده من سيتحمل المسؤولية.
من يعرف نهاد المشنوق يدرك جيدًا طريقة تفاعله مع هذا الضجيج. ويدرك أيضًا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، لا سيما في ظل تقاطع رهيب يتمثل برغبة أكيدة في نسف الانتخابات وفي سحق نهاد المشنوق، أي ما يشبه إصابة عصفورين بحجر واحد. الفارق هنا أن نهاد ليس عصفورًا، وأن سحقه يتطلب قدرًا أكبر من الخبث ومن الذكاء.
ربما، والحالة هذه، لم يتعرض وزير داخلية في تاريخ لبنان لما تعرض له نهاد المشنوق على مدى سنواته الأربع. كان الهجوم مؤذيًا ومباغتًا. وكانت حدة الخبث والذكاء ترتفع كلما استطاع الرجل أن يصد هجومًا أو أن يكشف مؤامرة. بدأت الحكاية منذ يومه الأول، ثم راحت تتعزز على وقع المتحركات والاستحقاقات. من أحداث روميه الشهيرة، مرورًا بتسريبٍ محترف لخبر لقاء مزعوم جمعه باللواء علي مملوك قبل أيام قليلة من حسم التشكيلة النهائية لحكومة سعد الحريري، والتي كان نهاد من ثوابتها المعلنة، وصولًا إلى بيان أهالي العسكريين الذي تغافل عن كل الوقائع الموّثقة، وركز على حملة التطهير التي قادها المشنوق بوجه الخلايا المستيقظة في سجن روميه قبل سنوات.
يروي شاب متحمس أنه ذهب يومًا إلى لقاء نهاد المشنوق في مكتبه. كان يحمل في جعبته كلام كثير. أراد أن يخبره بكل شيء. بكل ما عرفه ولمسه في أيامه العجاف. عندما وصل إليه قصّ على مسامعه حكاية رجل يحضره مع بداية كل لقاء بينهما، وكان هذا الرجل قادرًا على معرفة الناس واكتشافهم من النظرة الأولى. ابتسم نهاد المشنوق وباغت ضيفه بقصة تروي ظمأه واندفاعه. فهم الشاب الرسالة. استرجع أنفاسه. ثم راح يُردد في هدبه: نهاد أعلم مني بالناس. نهاد أعلم مني بالناس.