كان متوقعاً ومتصَوَّراً أن يتمّ استقلال اقليم كردستان عن العراق في أي وقت، طوال المئة عام التي مرّت، ولم يكن متوقّعاً ولا متصَوَّراً أن يحصل الانفصال ودّياً أو بالتراضي. أن يؤدّي الى «حرب أهلية» أو الى عزلة اقليمية دائمة أو موقتة لـ «الدولة» الوليد فهذا من أثمان الهدف المحدّد: تقرير المصير. لن تغزو تركيا الإقليم، على رغم تهديدات رجب طيّب أردوغان، مبطّنة ومكشوفة. أمّا إيران فلا تراهن على «عمليات مشتركة» مع تركيا لأن لديها أذرع «الغزو بالوكالة» ممثّلة ببعض ميليشيات «الحشد الشعبي» وليس كلّها. وأمّا بغداد التي لم تخرج بعد من حربها على تنظيم «داعش» فليست في وضع أفضل مما كانت عليه الحكومات العراقية السابقة إبان حروبها على الأكراد، وربما تضطرّ الضغوط الداخلية حيدر العبادي الى إجراء عسكري، إلا أنه سيركّز فيه على تأمين وجود لحكومته في المناطق المتنازع عليها، الموزّعة بين محافظات كركوك وديالى ونينوى وصلاح الدين، أكثر مما سيفكّر بتطويع الإقليم لإبقائه في نطاق «الدولة الاتحادية».
الأكيد أن الأخطر هو ما سبق الاستفتاء، فالانفصال أصبح أو يكاد انقساماً سياسياً حادّاً وواقعاً نفسياً جماعياً يدّعي مقاومة هذا الاستحقاق فيما هو يعمّق تسويغه. باتت كل كلمة في أرجاء البرلمان، وكل انفعال على الفضائيات، وكل شتيمة على مواقع التواصل الاجتماعي، كما في الشارع، ترسّخ واقع ما بعد الاستفتاء ولا تبدّده. وكأن عراقيي إيران يستشعرون بأنهم عشية سقوط آخر لنظامٍ آخر يتيح فرصاً جديدة لنهج المغانم، لذا هناك من يتعجّلون شغور المناصب من رئاسة الجمهورية الى وزارات الى وظائف حكومية، كما يتربصون بأملاك ومخلّفات يوشك الأكراد أن يفقدوها. لكن، حتى في الإقليم نفسه، حيث لا تسود هذه الحال المسعورة ضد العراقيين العرب «اللاجئين» الهاربين من جحيم بغداد، توجد حسابات متوجّسة لدى «حركة التغيير» والإسلاميين من أن يفضي الاستفتاء الى إدامة الحال الاستبدادية التي ينعتون بها حكمهم وحكومتهم، بل يتخوّفون من استشراس هذا الاستبداد في ظلّ العزلة المتوقّعة للإقليم.
زرع الاستفتاء حدّاً فاصلاً تاريخياً، ولحظة إعلان موعده كانت عملياً لحظة الانفصال، وبالتالي لحظة انتهاء الحوار، إذ لم يفد قبلها، وبالطبع لم يفد بعدها، لا مع بغداد ولا مع الأطراف الخارجية. فرئيس الإقليم سأل مراراً وتكراراً عن «البدائل» و «الضمانات»، وكان مسعود بارزاني مدركاً مسبقاً أن أحداً لن يتمكّن من توفيرها، لأن البدائل التي في خاطره وخواطر الأكراد كافةً ليست صعبةً فحسب بل مستحيلة: ضمان اميركي علني وموثّق بمساعدة الأكراد على تحقيق دولتهم المستقلّة... صحيح أن الولايات المتحدة ملتزمة أمن الإقليم وسلامته، منذ ما قبل الغزو والاحتلال عام 2003، وأن جيمس ماتيس جدّد أخيراً هذا الالتزام بمعزل عن الاستفتاء ونتائجه وتداعياته، إلا أن الولايات المتحدة التي اجترحت نظام ما بعد صدام حسين ثم انسحبت بعدما ارتبطت مع حكومة بغداد باتفاقات معروفة، ما لبثت أن ضاعفت التزاماتها مع عودتها لقيادة الحرب على «داعش» وإنهاء سيطرته.
لم يكن ممكناً في حال الحرب، إذاً، أن تُقدِم واشنطن على أي تعهّد ستعتبره شريكتها بغداد ضرباً لهيبتها ولسيادة العراق ووحدة أراضيه وانتهاكاً واضحاً للاتفاق بين الدولتَين. وعلى رغم التعاطف الأميركي والغربي عموماً مع الإقليم قضيته، إلا أن التأييد للأكراد لا يبلغ حدّ تجاهل التوتّرات الإقليمية المتصاعدة، بل إن الاستفتاء يزيدها سخونةً، فالشأن الكردي ماضٍ في تعقيد الأزمة السورية على رغم بلوغها احتمال وقف شامل لإطلاق النار، وهو يفاقم مخاوف واقعية لتركيا على وحدة أراضيها، ويثير قلق إيران من وجود انفصاليين أكراد في ربوعها، كما أن المحيط العربي يطرح أسئلةً جدّية ومشروعة عن مصير سنّة العراق في ظل هيمنة إيران واستيعابها للفلول «القاعدية» و «الداعشية» في فلكها... لذلك قيل للإقليم وحكومته أن «التوقيت خاطئ وغير مناسب»، لكن هذه الظروف الإقليمية الصعبة هي بالضبط الظروف المناسبة التي اقنعت بارزاني وقادة كردستان العراق بالذهاب الآن وليس غداً الى الانفصال والاستقلال.
وطالما أن الاستحقاق لن يكون سهلاً في أي حال فالأحرى أن يتحقّق في ظلّ انشغال الجوار بمشاكله وصراعاته، لأن كل السيناريوات لمعالجة الوضع الإقليمي وضبطه تفترض تسويات دولية يعتقد الأكراد في ضوء السوابق أنها اذا لم تتمّ ضدّهم وعلى حسابهم فإنها على أقلّ تقدير ستطيح طموحاتهم وأحلامهم.
كالعادة انتظر الأميركيون بلوغ «المأزق» نقطة اللاعودة للإيحاء بأنهم لم يقصّروا في تفاديه. هكذا فعلوا في ذروة الأزمة بين حكومة نوري المالكي والمحافظات السنّية عام 2013 حتى منتصف 2014، بل هكذا فعلوا أيضاً في سورية، إذ كانوا على يقين بأن قنبلة الإرهاب «الداعشي» تنتشر وأنها على وشك الانفجار، لكنهم اكتفوا آنذاك برسائل باردة ونصائح باهتة لم يعرها المالكي أي اهتمام وهو المستغرق في تطبيق الخطة الإيرانية: إمّا اخضاع تلك المحافظات وإمّا «استدعاشها» بسحب الجيش والأمن الحكوميَين منها وتركها نهباً للتنظيم ثم استعادتها لمعاودة اخضاعها بعد تدمير مقوّمات العيش فيها. وهكذا فلا مبالغة اذا وُصِف «المشروع» الذي جاء به المبعوث الأميركي الخاص والسفير البريطاني وممثل الأمم المتحدة في العراق كـ «بديل» من الاستفتاء بأنه «صغير جداً ومتأخر جداً»، وبدل أن يقنع الأكراد بالتخلّي عن الاستفتاء أقنعهم بأن أضرار التراجع عليهم ستكون أضعاف الأضرار المحتملة للاستفتاء نفسه.
لم يكن متوقّعاً أن يخرج المشروع الثلاثي عن إطار الدستور وضرورة التفاوض مع بغداد لحلّ الخلافات واستئناف «الشراكة» التي كان فشلها أهم حجج بارزاني للدفع بمشروعية الاستفتاء. وإذ قُدّمت مواكبة مجلس الأمن الدولي للتفاوض على أنها ضمانٌ لحقوق الإقليم فإن الواقع الدولي أعطى براهين كافية على عقم مجلس الأمن وعجزه. أما الاعتماد على رحابة صدر بغداد واستعدادها الطيّب للتعاون وتفعيل الشراكة فدونهما صعوبات كأداء يمكن اختصارها بأسئلة ثلاثة: مع افتراض كل حسن النية عند العبادي فهل إن القرار في بغداد أم في طهران، وهل هو وطني أم «حشدي»؟ ومع افتراض الدعم الإيراني للتوافق مع الأكراد وإرضائهم تفادياً للأسوأ، فهل يمكن التعامل بالمثل مع سنّة العراق أم يجوز ايرانياً و «حشدياً» التمييز ضدهم «وفقاً» للدستور؟ ومع افتراض أن التسوية التفاوضية ممكنة مع الأكراد، كمصلحة عراقية وطنية، فهل إن كردستان العراق ستتخلّى نهائياً عن المطالبة بالاستقلال والانفصال؟..
يمكن وضع حديث «الشراكة» على حدة، فهي شعارٌ ولم تكن هدفاً، ولو كانت كذلك لوجب احترامها خلال كتابة الدستور وبعد إقراره وبالأخص بعد إجراء التعديلات المتفق عليها. فالوضع الذي نشأ لم يكن دستورياً على الإطلاق، فالشيعة اعتبروا إرضاء إقليم كردستان بـ «الفيديرالية» كافياً لإطلاق أيديهم في تشكيل نظامهم لا لإعادة بناء الدولة بل لتلبية أطماع إيران ونزواتها، أما الأكراد فتحالفوا مع الشيعة لترتيب مصالح الاقليم وتأمينها ولم يحضّهم «تمسكهم» بـ «الشراكة» على الاهتمام بحقوق المكوّن الآخر السنّي، ولم تكن تقارباتهم الآنية معه سعياً الى تصويب «الشراكة» بل الى استدراج تنازلات من بغداد لقاء إهماله مجدّداً، الى أن ضرب التباعد عميقاً في الأرض بينهم وبين المالكي واستمرّ ولو مخَفَّفاً حتى بعد مجيء العبادي.
لو لم تفشل «الشراكة» لربما كانت حجّة الأكراد أقلّ زخماً. أما فشلها فلا شكّ أنه مسؤولية الجميع بلا استثناء ولو بدرجات متفاوتة. ذاك أن سلطة الاحتلال الأميركي كانت المسؤولة عن حلّ الدولة العراقية ومؤسساتها غداة سقوط النظام السابق. وإيران لا تزال المسؤولة عن الاستثمار في الخراب العراقي بموجب «الشراكة» الضمنية بينها وبين الولايات المتحدة. لكن عراقيي/ ايرانيي النظام الناشئ في بغداد مسؤولون عن ادارة «دولتهم» بعقل ميليشيوي - طائفي. وفيما يلام السنّة على تقصيرهم المريع في إدراك المتغيّرات واستيعابها، لا يمكن القول أخيراً إن الأكراد ساهموا في «الشراكة» وحاولوا فعلاً انجاحها، فعندما كانت هناك منافع استفادوا منها وعندما انقطعت يريدون الاستفادة من فشلها لتفعيل الطلاق مع العراق.
الكرد خارج هيمنة إيران ... فماذا عن سنّة العراق؟
الكرد خارج هيمنة إيران ... فماذا عن سنّة...عبد الوهاب بدر خان
NewLebanon
مصدر:
جريدة الحياة
|
عدد القراء:
2173
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro