يعترف النائب وليد جنبلاط أن "الدوزنة الجديدة مع الرئيس سعد الحريري تشوبها ثغرات موضوعية حول بعض الملفات تأخذ لاحقاً بعداً ذاتياً نحن بغنى عنه".
ليست المرّة الأولى، التي يتحوّل فيها إنتقاد جنبلاط سياسة الحريري إلى منحى شخصي، ليعود البيك ويصحح الموقف. فهو لا يقصد شخص الحريري، بل بعض المواقف والتصرفات التي لا يبدو الحريري مسؤولاً عنها، إنما يجد نفسه مضطراً إلى السير بها بحكم الواقعية.
يمرّر جنبلاط الرسائل المشفّرة، بطريقة مباشرة، فيقول إنه "مع المفارقات في دوزنة الملفات الحساسة مثل الكهرباء والبطاقات الممغنطة بالتراضي، فإننا لن نقبل بعودة العلاقات اللبنانية السورية إلى سابق عهدها من الوصاية، ولن نقبل إلا بدوزنة دقيقة ومدروسة، مدركين أن النظام حسّن مواقعه، وهذا شأنه. لكن لا بد من موقف موحد من العهد والوزارة في ارساء دوزنة مدروسة من الند إلى الند منعاً للانبطاحية المعهودة". المقصود في كلام جنبلاط ليس الحريري، بل من يحاول إعادة لبنان إلى حضن الأسد، ويضغط لتحقيق ذلك، فيما جنبلاط يريد التصدّي لذلك إلى جانب الحريري، والحفاظ على الثوابت المشتركة بينهما.
واضح جنبلاط في ما يرمي إليه، وهو يهدف إلى مواجهة أي تنازل يحاول الطرف الآخر فرضه، منذ أنجزت التسوية الرئاسية. لكن جنبلاط يؤكد أنه لا يريد تحميل الحريري مسؤولية كل شيء، وليس هو المسؤول عن حال البلاد والعباد، إنما ما يريده هو الحفاظ على الثوابت وبعيداً من المزايدة، خصوصاً في مسألة وجوب احترام شهداء 14 آذار. مع الإشارة إلى أن الجميع التقى على مبدأ حماية الاستقرار، وإنهاء الفراغ الرئاسي للحفاظ على المؤسسات.
حين ينتقد جنبلاط أي طرف سياسي، سرعان ما يأتي الردّ بأنه صاحب مواقف متعددة، ولا يكون الردّ سياسياً، والحال نفسه يحصل اليوم في العلاقة المتذبذبة مع الحريري. قبل أشهر حصل سجال بين الحريري وجنبلاط تخطى كل الحدود، حين اعتبر جنبلاط أن الحريري يريد التعويض في البلد وفي التنازلات السياسية عن الإفلاس الذي تعرّضت له شركاته. فكان ردّ الحريري بأن "يروحوا يبلطوا البحر"، فرد جنبلاط مجدداً بأن تبليط البحر من اختصاص سوليدير.
لم تمرّ العلاقة بين الرجلين بهذا القدر من السوء وقد عملت بعض المساعي على دوزنتها، لتعود اليوم إلى التوتّر بعض الشيء، وآخرها ما تجلّى في موقف جنبلاط الجديد. ينفي جنبلاط لـ"المدن" أن يكون قاصداً استهداف الحريري بشخصه، لكن لا يمكن السكوت عن بعض الأمور، خصوصاً في ظل التحولات التي تمرّ بها المنطقة، وفي وقت يحاول النظام السوري أن يعزز موقعه، لأن الآن يجب الثبات ومواجهة أي محاولة لإعادة الأمور إلى سابق عهدها، أي إلى دفع لبنان إلى حضن النظام السوري. ويقول: "لم نتمكن من الوصول إلى صيغة مع الحريري، يرضى فيها بتوجيه الإنتقاد له، ولا شك في أن الإنتقاد يكون قاسياً في بعض الأحيان، لكن لا بد من توجيهه لتصويب بعض الأمور، وللسير في طريق مشترك مع الحريري، وليس لترسيخ الإبتعاد".
يتركز الخلاف بين الرجلين حول بعض المواضيع التفصيلية على طاولة مجلس الوزراء، كموضوع بواخر الكهرباء والبطاقة الممغنطة. ويقول: "حاولنا الوصول إلى تفاهم هادئ بخصوص السفن وعدم اللجوء إليها، لكن ما مشي الحال، وهو مصر عليها، رغم كثرة التقارير العلمية التي تفيد بأنها غير ناجعة، وستدخل البلد في أزمات متتالية ولن تؤمن الكهرباء". والامر نفسه يسري على الإصرار على السير بالبطاقات الممغنطة.
لا شك في أن الرسائل التي انتقد فيها جنبلاط الحريري على خياراته السياسية، تأتي في توقيت لافت، خصوصاً في ظل مساعي بعض الأفرقاء في الحكومة إلى جرّ اللبنانيين للعودة إلى النظام السوري، وإلى سابق عهد الوصاية. وفيما يعتبر البعض أن الحريري ينتهج مساراً سلكه منذ إبرامه التسوية الرئاسية، إلا أن الأكيد أن الحريري ليس هو من يتحمّل هذه المسؤولية، بل هو قرأ توازنات دولية، وحاول الحد من الخسائر، ووقف الفراغ، و"سار وسرنا معاً بالتسوية التي أدت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية". يرفض جنبلاط أخذ أبعاد أخرى لمواقف الحريري، ويقول: "لا أتصور أن الأمور وصلت بالنسبة إلى سعد إلى درجة التطبيع مع النظام السوري، وهو لن يقدم على هذه الخطوة، لكن المطلوب منه أن يشكل رافعة سياسية للمحور الذي ينتمي إليه، من أجل مواجهة طموحات بعض الأفرقاء الذين يريدون إعادتنا إلى مرحلة سابقة".
يسارع جنبلاط إلى الحديث عن الآمال التي علّقت على العهد الجديد، وعن الوعود التي أغدقت، وذلك ليشير إلى التخوف من الأزمة المالية المقبلة، بسبب السياسات العشوائية والشعبوية، وما حصل في مسألة سلسلة الرتب والرواتب، سيتعمّق إذا ألغى المجلس الدستوري قانون الضرائب. بالتالي، "تكون السلسلة قد أقرت بدون تأمين أي موارد لها، ونحن حذرنا سابقاً من الشعبوية، لكنهم أصروا على إقرار السلسلة بطريقة عشوائية، وبدون إصلاح". ويؤكد جنبلاط أن الإصلاح مستحيل الآن، وهو نجح في لبنان سابقاً مرتين، أيام رفيق الحريري، وكان مبنياً على مؤتمر باريس 2، والذي اشترط إدخال بنود إصلاحية. "مستحيل أن ينجح الإصلاح الآن، ومن الذي سيصلح الطبقة السياسية برمّتها؟ ومن أين يجب أن تبدأ؟ لا أحد يملك الجواب".
ويعتبر جنبلاط أن الانتخابات يجب أن تحصل في موعدها، رغم الخلافات بشأن قانون الانتخاب، الذي جاء بهدف تحرير الأقليات المسيحية في المناطق التي فيها رافعات إسلامية، وكان ذلك بناءً على توافق بين التيارين المسيحيين البارزين. ويسأل إذا ما كان التحالف بين التيار الوطني الحر والقوات سيستمر. لكنه يشدد على وجوب توافق الجميع في الشوف، متمنياً أن يتم تشكيل لائحة واحدة تضم كل المكونات. لكنه لا يسقط من حساباته التوجهات السياسية لبعض القوى. ويقول: "عليك أن ترى البعد الآخر في المسألة، وهو البعد السوري، وإذا كان سيبقى النظام متفرجاً؟ بالتأكيد لا، وهو حين يقوى سيستفرد، ولن ينسى الذين انتقدوه وسيسعى إلى تحجيمهم وقد يتدخل ليمنع بعض التحالفات بين بعض القوى، ويفرض تحالفات أخرى". وهذا ما علينا مواجهته معاً.
يوحي كلام جنبلاط عن النظام السوري، وكأن هذا النظام بدأ يعود إلى سابق عهده. لذلك يشدد على عدم الإنبطاح أمامه، والعودة إلى ثوابت 14 آذار، لمنع تجديد أي شكل من أشكال الوصاية، وهو يعتبر أن النظام باق لمرحلة معينة، ويشدد على أن بقاءه مرحلي، فيما سوريا تحوّلت إلى مناطق نفوذ، بين تركيا، روسيا، إيران وأميركا، إلا أن اللاعب الأساسي هو روسيا، وهذا يظهر من خلال التحالفات التي بنتها موسكو، وكل الترتيبات التي تتخذها. فيما المعارضة الوطنية والمدنية، ألغيت وأصبحت شبه منتهية، فيما الجميع يقول إن الحل سيكون سياسياً، لكنني لا أعلم كيف سيكون هذا الحلّ السياسي، بدون وجود المعارضة التي تمثّل الشعب السوري المعارض.