عاشورائيات... مأساة الطالبيّين على مرّ العصور (2)

* مُمهّدات مأساة كربلاء...
مهّد الخليفة معاوية بن أبي سفيان لمأساة كربلاء بنقضه الورقة الثانية في عهده مع الحسن بن علي، فالورقة الأولى كانت أشبه بعقد خاص بين الرجلين، فحدّدت الريع السنوي والمرتبات التي التزم بها معاوية مع الحسن، والتي بلغت مليون درهم وخراج بعض ملحقات البصرة، أمّا الورقة الثانية فهي التي برّرت الأولى وأجازتها، فقد التزم معاوية بالسلم، وتنازل الحسن لمعاوية عن السلطة على المسلمين، ومن بعده تكون الخلافة شورى، ويُمنح عفوٌ عام ،يمتنع بموجبه معاوية عن التّعرُض للحسن وصحبه ومناصريه، وهكذا أمسك معاوية بالخلافة وتنفّس المسلمون الصعداء بوقف القتال وتوحيد الأمة، وظلّت الأمور طبيعية حتى عام ثلاث وخمسين للهجرة، عندما مات زياد بن أبي سفيان (يبدو أنّ زياداً كان يعارض خلافة يزيد لأبيه)، عندها أظهر معاوية عهداً مُفتعلاً فقرأهُ على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وأراد بذلك أن يُسهّل بيعة يزيد ويختبر ردّات الفعل، ولم يزل يُروّض الناس لبيعته سبع سنين، ويُشاور، ويعطي الأقارب ويُداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس؛ فقال لعبدالله بن الزبير: ما ترى في بيعة يزيد؟ فقال عبدالله: يا أمير المؤمنين، إنّي أناديك ولا أناجيك، إنّ أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدّم، وتفكّر قبل أن تندم، فإنّ النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التّندُم. فضحك معاوية وقال: ثعلبٌ رواغ! تعلّمت السّجع عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك، ثمّ التفت إلى الأحنف بن قيس وقال: ما ترى في بيعة يزيد؟ قال الأحنف: نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا.

إقرأ أيضًا: عاشورائيات ... مأساة الطالبيّين على مرّ العصور
وفي سنة خمسٍ وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، وكان في من وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له، ما ترى في بيعة يزيد؟ فقال محمد: ما أصبح اليوم على الأرض أحدٌ هو أحبُّ إليّ رشداً من نفسك سوى نفسي، وإنّ يزيد أصبح غنياً بالمال، وسطاً في الحسب، وإنّ الله سائلٌ كلّ راعٍ عن رعيته، فاتّق الله وانظر من تُولّي أمّة محمد، فأخذ معاوية بهرٌ حتى تنفّس الصعداء، ثم قال: يا محمد، إنّك امرؤ ناصح، قلت برأيك، ولم يكن عليك إلاّ ذاك، وأردف: إنّه لم يبق إلاّ إبني وأبناؤهم، فإبني أحبُّ إليّ من أبنائهم؛ اخرج عني.
ويبدو أنّ معاوية بعد نصيحة محمد بن حزم وجوابه له، كان قد حزم أمره بالخروج من عهده مع الحسن بن علي، وتبارى بعد ذلك الخطباء في مدح معاوية وابنه يزيد، وكانت خطبة يزيد بن المُقنّع هي الحازمة القاطعة عندما قال: أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى معاوية - فإن هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - فمن أبى فهذا - وأشار إلى سيفه، فقال معاوية: اجلس، فإنّك سيّدُ الخطباء، ثمّ تكلّم الأحنف بن قيس، فقال: 
يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تراه للّه رضا، ولهذه الأمة ، فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تُزوّدهُ الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
فتفرّق الناس ولم يذكروا إلاّ كلام الأحنف.
إلاّ أنّ المعارضة الفعلية كانت في المدينة، حين دعا مروان بن الحكم عامل معاوية عليها للبيعة ليزيد، فخطب الناس وحضّهم على الطاعة وحذرهم الفتنة، وقال: سُنّة أبي بكر الهادية المهدية، فقال له عبدالرحمن بن أبي بكر: كذبت، إنّ أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجلٍ من عُدي رضي دينه وأمانته، وتكلم الحسين بن علي وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر وأنكروا ذلك.
وتذكر الأخبار أنّ معاوية قدم إلى المدينة، وحاول أخذ موافقة أبناء الخلفاء، والبيعة ليزيد علناً، فلم يُحرز ذلك، وحفظ التاريخ ما قاله عبدالله بن عمر لمعاوية: إنّ الخلافة أفضت لمن هو أفضل منك، فلم ينقلها لمن هو أفضل من ابنك، ومات معاوية في دمشق سنة ستّين للهجرة، وخلفهُ ابنه يزيد، وظلّت المعارضة مركّرة في المدينة، وعلى رأسهم الحسين بن علي، الذي سيخرج من المدينة قاصداً العراق.
يتبع: الخروج والمأساة والاستشهاد.