وضع الدكتور علي أكبر ولايتي كبير مستشاري المرشد آية الله علي خامنئي ووزير الخارجية الأسبق لأكثر من عشر سنوات، «يده على الجرح»، بمعرفة ودقّة الطبيب المجرّب وهو يتحدّث عن رفض بلاده للاستفتاء حول الاستقلال في «كردستان العراق» فقال: «إيران تُعارض أي انفصال لمختلف القوميات لأنّه إذا بدأ في هذه المنطقة فلن ينتهي.. لذلك نرفض أي حركة انفصالية قومية في المنطقة بما فيها سوريا والعراق وتركيا وإيران».
من الواضح والمؤكد، أنّه بعد 25 أيلول الوضع في كردستان العراق والمنطقة لن يكون كما قبله. توجد قنبلة موقوتة منذ عقود طويلة، احتاط الجميع حتى لا تنفجر. بعد فجر 26 أيلول، لا مجال للتعامل مع هذه «القنبلة» سوى بكثير من الهدوء بعد تنحية التوتر والغضب والأهم الرفض، وكأن شيئاً لم يحصل أو سيحصل. فور ظهور نتائج الاستفتاء متى حصل، وتبيّن أنّ نسبة المشاركين تزيد على 70 في المئة، يجب الأخذ في الاعتبار أن التاريخ أصبح يُكتب بلغة مختلفة، وأنّه إذا لم يحاول الجميع في المنطقة، العمل على التفاهم بلغة العقل، فإن الانفجار واقع لا محالة.
طبعاً، وبلا أي شك، إن مسؤولية مسعود البارزاني ضخمة في كيفية تعامله مع الآخرين خصوصاً العراقيين، وفي كيفية إظهار الفوز، وهو سيتحمل مسؤولية تاريخية في التحولات الخطيرة التي تلبّد
سماء العراق ومحيطه. مهما قال البارزاني عن مشروعية تحقيقه الاستقلال الذي يعمل من أجله منذ أن عاد مراهقاً إلى العراق فإن النقطة الأساسية، أنّ المعارضين له ليسوا كما أيام صدام حسين من السنّة العراقيين فقط، الآن الشيعة يعارضونه، تركيا وإيران أيضاً تعارضانه بقوة. وحدها إسرائيل (وهي مكمن الخطر في مسار الأحداث وتطوراته) تؤيده وتدعمه، علماً أنّ هذا الدعم ليس طارئاً ولا جديداً. فالعلاقة بين الأكراد في العراق بدأت مع مصطفى البارزاني وتطورت في «الحروب»، والثابت أنّه بعد المشاركة في تدريب «البيشمركة»، فإن الموساد أشرف ويتابع إشرافه على تدريب الأمن الكردي، مع ما يعني ذلك من الاختراقات وبناء العلاقات المتميزة.
ما يؤكد ذلك مسارعة إيران وتركيا إلى التوافق والمشاركة في رفض الاستفتاء جملةً وتفصيلاً. في طهران توالت تصريحات الرفض المقولب خطابياً بالمؤامرة، الأخطر اتهام خطيب الجمعة آية الله خاتمي: «أن إسرائيل ثانية ستقوم في المنطقة»... أما علي سعيدي ممثل المرشد في «الحرس الثوري» فرأى «أن الأعداء يستهدفون عمقنا الاستراتيجي للنيل من قوة إيران».
عسكرياً، بعد زيارة رئيس الأركان الإيراني محمد باقري إلى أنقرة، وهو حدث غير مسبوق، قال مع نظيره رئيس الأركان التركي خلوصي آكار، إنهما «بحثا آثار وتبعات إجراء الاستفتاء، وهي سلبية وخطيرة على أمن المنطقة وسلامها واستقرارها بما فيها تركيا وإيران».
وأرفق الأميرال علي شامخاني رئيس «مجلس الأمن القومي» تحذيره الكلامي هذا بأول خطوة عملية قد يتم اتخاذها بالقول: «إن إقفال الحدود ووقف كل الاتفاقات الأمنية طبيعي لأنه لا قيمة للاتفاقات إلا مع الحكومة العراقية المركزية».
السؤال الواقعي الذي تصيغه التصريحات «البركانية»، سواء من إيران أو تركيا أو العراق، لماذا هذا الرفض وهذه التهديدات؟
استقلال «كردستان» العراق، يفتح الأبواب أمام أكراد تركيا وإيران وسوريا للمطالبة والعمل السياسي والمسلّح لنيل ما ناله أخوتهم أكراد العراق من الاستقلال، وكل ذلك على طريق قيام «كردستان الكبرى». الأكراد في الأساس شعب وقومية، ظلموا بسبب تمزيقهم من ثلاث دول كبيرة في المنطقة. وهم يملكون الشروط القومية الواجبة ليكونوا أمةً واحدة تعيش في دولة على قدَم المساواة مع دول المنطقة.
هذا «الحلم»، إذا تحقق وأصبح واقعاً يعني أن 32 في المئة من تركيا قد يُنزع منها. زائد عشرين مليوناً من الأكراد أو كما تطلق عليهم أنقرة اليوم وقبلها إسطنبول «شعب شرق الأناضول»، هم أول مَن طالبوا وقاتلوا لنيل ولو الاستقلال الذاتي. لذلك دفعوا في عهد أتاتورك كما يقول الزعيم الهندي جواهر لال نهرو مليون ونصف مليون قتيل. اقتطاع الإقليم الكردي من تركيا يعني كما لو «بُترت أقدام الجسم التركي».
أما إيران فإن عدد الأكراد ليس كبيراً فهم حوالى خمسة ملايين من أصل 80 مليوناً، ربما أكثر بقليل. لكن من المعروف أنه في عام 1946 قامت جمهورية كردستان – مهاباد. وتم القضاء عليها بالقوة. وأن الأكراد انتفضوا مطلع الثورة وأنه جرى اغتيال الدكتور قاسملو في فيينا. منذ فترة تقع صدامات على الحدود مع كردستان العراق حيث توجد مجموعات مسلحة تُطالب بالاستقلال.
مشكلة إيران، أن حصول أي توجه مسلح كردي ومنظم يجد المأوى والتعاطف من كردستان – العراق، يفتح «عش دبابير» حركات انفصالية أخطر خصوصاً في سيستان - بلوشستان، إضافة الى منطقة «خوزستان» العربية. وأخطر ما في انفلات «أحزمة النار» في إيران أنها تشكّل مزيجاً من الالتزام القومي زائد الانتماء المذهبي السني الذي من الواضح أن المشاعر السنية في إيران تصاعدت في الفترة الأخيرة إن بسبب الحرب في سوريا، أو بسبب تجذر الإهمال والاستبعاد عن مواقع السلطة في الجيش ووزارة الخارجية، وبطبيعة الحال وهو الأساس في تأليف أي حكومة إيرانية كما كان الحال في زمن الشاه.
أما بالنسبة للعراق والعراقيين، فإن استقلال «كردستان»، قد يفجّر سلسلة من الحروب تبدأ في كركوك أساساً حيث توجّه إليها رتل من «الحشد الشعبي» بانتظار تحرك الجيش لاحقاً رغم انشغاله بالحرب ضد «داعش».
نقطة غامضة في كل ما يحصل. ما هو الموقف الأميركي الحقيقي من فوز الاستفتاء؟ هل تتخلى واشنطن عن حليفها الكردي في سوريا فيدفع ثمن «تمرد» البارزاني؟ أم تترك كل فريق يقلع «شوكه بيده» خصوصاً أنها لا تملك استراتيجية واضحة وموضوعة موضع التنفيذ. ما يضع نقطة تساؤل كبيرة أيضاً حول الموقف الأميركي هو أن هذا الحدث سيشغل إيران ويساهم في «تقليم أظفارها»، فلِمَ تعمل على وقف مثل هذا المسار؟
أيضاً، ماذا عن روسيا خصوصاً أنها تعمل على رسم المسارات في المنطقة على قاعدة البقاء الطويل البعيد عن الجلوس فوق حقل الصبّار؟
الأمل الآن أن يكون فوز «نعم» لا يعني الاستقلال، وأن يبقى «ورقة ضغط قوية ومؤثّرة» في يد البارزاني في أي مفاوضات مقبلة مع الحكومة العراقية في كل ما يتعلق بالميزانية وحصة الأكراد من النفط.
أما إذا تحولت «نعم» للاستقلال أو إلى بداية لإعلان الاستقلال، فإن «كرة النار» لم تعد خافية، خصوصاً أن جميع المكونات العراقية بدأت بالتسلح، وأنه توجد قوى إقليمية ودولية مرحّبة ومستعدة لدعم هذه العملية حتى آخر نقطة دم من العراقيين.