تعرفها شوارع طرابلس، ويشاهدها سكانها باستمرار، حتى بات الجميع معتادا على منظرها، رغم غرابته، وفرادته، ولم يسأل أحد من هي تلك المرأة التي اتخذت من شوارع المدينة مسكنا على مدار السنة؟
المارة يعرفونها لكثرة مشاهدتها، اما نائمة او مستلقية على الرصيف او جالسة بين متاعها، وهي عبارة عن كومة من اكياس النايلون السوداء المليئة باغراضها، وحاجاتها، وربما طعامها. هي امرأة في العقد السادس من العمر، ثيابها سوداء اللون رثة لا تبدلها منذ سنوات بعيدة.
لكن السيدة التي تبدو عليها علامات من النبل الزائل، اكتسبت قوة الاستمرار، وصلابة الصراع من أجل البقاء. فمنذ سنوات كانت تقيم داخل سياج احد بساتين الليمون بالقرب من مستديرة نهر ابو علي، غير عابئة بالقذائف، والرصاص خلال الاحداث التي شهدتها المدينة بين التبانة وجبل محسن. حتى هذا "البيت" الذي يعتبر تجويفاً من القصب، استكثره عليها بعض الصبية الذين كانوا يزعجونها، لكنها تحملتهم طويلا، إلى أن زهقت من طيشناتهم، مما دفعها للانتقال الى مسكن في موقع آخر بين القصب بالقرب من تقاطع شارع المئتين، أي في نقطة أقرب إلى داخل احياء المدينة، الى ان رحلت يوما الى الوسطية في شارع المعرض، قبل ان تنتقل مؤخرا الى البولفار الرئيسي في التل ولم لا، فالدنيا مكشوفة أمامها، ولا أحد يعترض على وجودها في مختلف الأماكن والساحات، وربما كانت افضل مشهدية من كثر آخرين.
في حلها وترحالها تحمل امتعتها الثقيلة المكونة من اكياس نايلون كثيرة، وفي هذه الايام تقضي كل وقتها في مقرها الاخير، تنام ليلا وحتى نهارا غير مكترثة بالمارة، ولكن اذا ما اقترب احد منها وحاول ازعاجها او التحدث اليها، ترعبه بشتائمها وصراخها، فيفر مذعورا.
تشعل سيجارة تلو اخرى بصورة توتر دائم، تعبر بها عن حكاية كامنة في ذاتها، تقض مضاجعها، لكن كبرياءها يأبى عليها ذل الاعتراف والخضوع فيه، وله، وكأنها تعبر عن غضبها او انزعاجها او نقمتها على المجتمع، وعلى ظروف حياتها القاسية، وما تكابده من عناء صيفا وشتاء في العراء.
النهار" حاولت الوقوف على معاناتها واسبابها، وبالرغم من انها ترفض، عادة، التحدث الى احد، ولكنها عبّرت عن وضعها ببضع كلمات:"اسمي فاطمة، البلد كانت كلاّ بتعرفني، وبتعملي حساب، كنت املك العديد من البيوت لكن "الكبار" استولوا عليها"، ومن هؤلاء الكبار؟ فتجيب:"الكباااار".
ولماذا تعيشين في الشارع، الا يوجد لك اقارب؟ ترد: "ليس عندي بيت، او مأوى، وليس لدي اقارب، انا مقطوعة". نعرض عليها مساعدتنا فتقول: "الله يخليكي اتركيني بحالي، لا تستطيعين مساعدتي، تقول متسائلة: "من يقدر على "الكبار؟". لكن من هم هؤلاء؟ تجيب والدموع تنحبس في مقلتيها :"الكبير بياكل الصغير".
والمستغرب ان فاطمة التي تعيش علنا في الشارع، لم تقم اية مؤسسة، او جهة رسمية او خاصة بالاعتناء بها، ونقلها الى مكان لائق تقضي فيه مابقي من عمرها، وتلقى رعاية صحية واجتماعية من منطلق انساني!!