ارتجف مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا جزعا جرّاء الهجوم الذي شنّته عليه المعارضة السورية متهمة إياه بأنه يتحدث كجنرال روسي وليس كوسيط محايد، فيما طالبته اتهامات أخرى بالتنحي كونه فقد نزاهته ومصداقيته. الرجل الأممي كان أبلغ المعارضة بسرّ صاعق “لم تربحوا الحرب”، فيما أن جحافل تلك المعارضة كانت تحاصر قصر الرئاسة في دمشق.
من حق الائتلاف المعارض أن يمارس دوره المدافع عن ثورة السوريين، لكن ليس من حقه بعد هذه التجربة المكثفة المريرة ألاّ يقرأ المشهديْن الدولي والإقليمي وألا يقرّ بظلالهما على المشهد الميداني المحلي في سوريا. ليست مشكلة المعارضة مع موظف في المنظمة الأممية يقود سفينته وفق الرياح التي تنفخها دول العالم في أشرعتها، بل في توقف رياح دول لطالما نفخت في أشرعة المعارضة قبل ذلك. والأجدى للمعارضة أن تحسن التعامل مع المستجدات التي غيّرت من موقف تركيا والأردن ودول الخليج، والتي جاءت لتلاقي مستجدات سابقة طرأت على موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
لا يعلن دي ميستورا نصر النظام فذلك يجهد بشار الأسد وحسن نصر الله لإقناع النفس به قبل إقناع السوريين. كان نظام دمشق المدعوم من إيران وحرسها الثوري وميليشياتها التابعة على وشك السقوط عام 2015. تحدث الأسد عن “سوريا المفيدة” وعن تموضع عسكري آخر، وطرقت طهران باب موسكو تطلب نجدة. ولولا تدخل روسيا منذ سبتمبر من ذلك العام وحتى هذه الدقائق، لم يقيض لنظام الأسد البقاء، ولم تكن قواته تتمدد في النواحي السورية على ما هو جار هذه الأيام. وعلى ذلك فإن العالم بأجمعه قرر من خلال الأداة الروسية الوصول إلى ما وصل إليه حال سوريا اليوم.
يحصد دي ميستورا ثمارا تنمو في الحقل السوري، وقد لا يكون هو شخصيا بعيدا عن ورش زراعة المواسم الأخيرة. أدرك الرجل منذ الأيام الأولى لوراثة ورشتيْ كوفي أنان، ثم الأخضر الإبراهيمي، أن الحرب تنتهي بقرار من خارج سوريا وليس من داخلها. أتى من أخبره أن 15 عاما من الحرب الأهلية في لبنان انتهت بقرار كان دور اللبنانيين به هامشيا صوريا. أهمل الرجل مماحكات السوريين، معارضة ونظاما، وراح يسليهم ويتسلى بهم داخل جلسات الردح المتبادل في جنيف.
في عرف دي ميستورا باتت إيران وتركيا جزءا بنيويا من لبنات الحل، فيما أساس أي مقاربة جدية جذرية لإنهاء المأساة السورية يقوم على تفاهمات كبرى بين موسكو وواشنطن. بات مسلّما هذه الأيام أن ابتعاد روسيا قبل العام 2015 عن ميدان سوريا المباشر وعدم اكتراث الولايات المتحدة للمشهد السوري أباح للعبث أن يفاقم في حفر مقتلة لا أفق لها.
يعلم الأسد قبل غيره أن قرارا غربيا، قبل أن يكون روسيّا، قد اتخذ باكرا لمنع سقوطه وسقوط نظامه. جاء كلام السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد مبكرا وواضحا في هذا الصدد للمعارضة، فيما عملت الضغوط الأميركية بشكل فعّال على منع ما من شأنه تشكيل أي خطر وجودي على دمشق وعلى مناطق الساحل السوري. ولا شك أن المراقب تأمّل متعجباً التزام فصائل المعارضة بالمحرّمات الأميركية تلك وعدم التمرد عليها.
يعلم الأسد قبل غيره أن تركيا هي من أسقطت حلب، وأنه لولا ذلك لما كان لعاصمة سوريا الثانية أن تعود لنظامه. ويعلم الأسد أيضا أن الرعاة الخليجيين للمعارضة السورية يواكبون الجهد الروسي الدولي منذ عامين ولا يتيحون للاعبين المحليين العبث بالتفاهمات الدولية الكبرى. ويعلم الأسد أيضا أن الأردن يضغط لسحب قوات العشائر وبعض فصائل المعارضة القريبة من عمان من البادية السورية ومن السويداء على النحو الذي يتيح لقواته التمدد وإبهار العالم بنصر دمشق المبين.
لا أحد بإمكانه اليوم إنكار الانقلاب الكبير في موقف العالم أجمع، دون استثناء، لإنهاء الحرب السورية. لكن لا يمكن لفوضى المطبخ الجارية حاليا أن تتيح استشرافا دقيقا لهوية الطبق السوري المقبل. ولا يتعلق الأمر بأسرار خفيّة تتم مواراتها، بل لأن كل جهود العواصم تتضافر لإنهاء الحرب، دون أن يعني ذلك أن هذه العواصم مجمعة على شكل الحل السوري المقبل.
يحتاج وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف إلى رعاية الرياض وعمان لمسارات موسكو السورية. تتم إقامة منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري باتفاق أميركي روسي خرج من اجتماع الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ الألمانية في يوليو الماضي. لكن خارطة التوافق تتم مع الأردن ومن عمان. يعلن لافروف قبل أيام أن السعودية جادّة في تسوية الأزمة السورية، ذلك أن من دونها لا يمكن التوصل إلى أي الحل. ويعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن اجتماعات أستانة الحالية هي الأخيرة لإنهاء الحرب والانتقال نحو الحل السياسي، ذلك أن لا حل في سوريا دون انخراط حقيقي لتركيا.
يعلن بشار الأسد وحسن نصر الله الانتصار المبين متغافلين عن دور كافة دول الخليج والأردن وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة في توفير ظروف إنجاح المقاربة الروسية. يعلن الرجلان النصر وهما يدركان أنه نصر مزيّف سيتم قضمه من قبل كل من ساهم في سيناريوهاته وإخراجه. وإذا كانت كافة دول العالم تعتبر أن العلّة السورية باتت ورما على العالم يجب اجتثاثه، فإن طهران تدرك أن حضورها السوري بات ينغص عمل الطباخين جميعا وإن كان الموقف الإسرائيلي المستجد يعبر عن تهويل بالكيّ لمرض لا ينفع معه ترياق.
قد تنهي أستانة فوضى الميادين وتعمل الغرف العسكرية المشتركة، لا سيما الأميركية الروسية، على معالجة الخروقات وإطفاء الحرائق الهامشية المتمردة، لكن رجل الأمم المتحدة سيحمل الفرقاء المحليين إلى جنيف ليباشر موسم القطاف، ذلك أن لدول العالم، والإقليم خاصة، مصالح ونفوذا داخل سوريا لا يمكن إلا أخذها بعين الاعتبار. في ذلك سيكون النقاش عن شكل النظام ومستقبل الأسد وهوية البلد وأدوار اللاعبين داخله.
في ذلك أيضا أن للمعارضة السورية دورا أساسيا مفصليا لا يفيد فيه شتم المبعوث الأممي والنيل من وظيفته. تعلن موسكو أن الأسد بات يسيطر على 85 بالمئة من الأراضي السورية. تكذب موسكو، وتعلم دمشق ذلك، فلو كان الأمر صحيحا لما احتاجت روسيا لـ“مناطق خفض تصعيد” ولـ“أستانة” ولـ“جنيف” ولمباركة الرياض وعمان وأنقرة. وحدها المعارضة لا تـدرك بأن وظيفتها المقبلة في جنيف تستدعي ممارسة خـلاّقة تعيد تجيير استفاقة العالم على سوريا من أجل خلاص ممكن.
بات العالم يتحدث عن إعمار البلد، ولن يتم دفع استثمارات الإعمار دون استقرار نهـائي في سـوريـا، ولا استقـرار إلا مـن خـلال تسوية سياسية كـاملة، ولا تسـوية دون انخراط المعارضة، فـإذا مـا ادعت موسكو ما لم تـدّعه دمشـق من أن النظـام يسيطر على 85 بالمئة من سوريا، فذلك أن 85 بالمئة من أوراق الحـل السوري ربـما هي ما زالت في يد المعارضة. ربما لا تدرك المعارضة ذلك.
محمد قواص
العرب