لن تعوض موسكو وطهران خسائر تركيا من تدهور علاقاتها مع واشنطن وبرلين وخسارة ورقة أوروبا التي كانت مفتاح النجاحات التي ميزت الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية
 

بينما يزداد التوتر بين حلف شمال الأطلسي وروسيا كما تدلل عليه المناورات العسكرية للطرفين في شرق أوروبا والبلطيق (تدريبات “غرب 2017 بين موسكو وروسيا البيضاء، ومناورات الناتو في أوكرانيا والسويد)، أعلنت تركيا، الجيش البري الثاني في حلف شمال الأطلسي، عن توقيع عقد لشراء بطاريات من منظومة الدفاع الجوي الروسية البعيدة المدى أس-400.

وتزامن ذلك مع توافق ألماني حول طلب وقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، عزز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من استدارته نحو روسيا، في الوقت الذي استمر فيه تدهور العلاقة مع واشنطن في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب. هكذا يرتسم الفراق بين أنقرة والغرب على أكثر من صعيد وتتفاعل الرقصة التركية على سلالم الشرق من جديد. لكن التخلي عن الرابط الأوروبي ستكون له أثمانه لجهة التخبط الاستراتيجي لتركيا وازدهارها الاقتصادي.

منذ أيام الإمبراطورية العثمانية في فترة أوجها كما عشية نهايتها، شهدنا التجاذب في التحالفات معها أو التموضع حيالها من قبل روسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها. ومنذ 2011 يعود التأرجح التركي بقوة من جديد مع اندفاعات أردوغان واستداراته في الخيارات الدبلوماسية بين الغرب والشرق. لكن إذا دقّقنا النظر في مواقف حكومات حزب العدالة والتنمية منذ 2002، نستنتج صلتها بأمن تركيا القومي وبوحدة البلاد السياسية والجغرافية حسب مقاربتها، وأنها لا تعدو أن تكون مجرد تكتيكات لخدمة استراتيجية الصعود الأردوغاني والنفوذ الإقليمي.

بهذا المعنى يمكن فهم حيرة الدولة التركية بين طموحها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وسعيها لاسترداد المجد العثماني، وبين انتسابها لحلف شمال الأطلسي وانفتاحها على روسيا ودول البريكس. لكن هذا الارتباك لا يعني عدم التمسك بثوابت أبرزها الموقف المتوجس من المسألة الكردية وبناء الكثير من المواقف استنادا إلى هذا الاعتبار.

من الناحية العملية اهتزت الثقة بين أميركا وتركيا منذ تعويل واشنطن على قوات كردية في الحرب ضد داعش في سوريا، وأدى ذلك إضافة إلى رفض تسليم فتح الله غولن إلى تدهور العلاقة الثنائية التي تأثرت بتداعيات الموقف الأميركي من النزاع السوري حيث بدت أنقرة وحيدة بعد إسقاط طائرة حربية روسية قرب الحدود التركية السورية. ومن هنا أتت استدارة أردوغان في الانفتاح على موسكو منذ 2016 في سياق التراجع الأميركي والأطلسي في الملف السوري.

ويمثل التوقيع في الأسبوع الماضي على عقد استحواذ تركيا من روسيا على أربع بطاريات دفاع صاروخي، منعطفاً في السياسة الخارجية لأنقرة وتأكيدا على توجه أردوغان إلى إبعاد بلاده عن حلفائها الغربيين التقليديين (منذ نشأة الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك) لصالح الربط الاستراتيجي مع روسيا ليس فقط في مجالات الطاقة والتبادل التجاري والسياحة فحسب، بل في المجال العسكري أيضاً.

وتستند استدارة أردوغان إلى تشكيك بحقيقة موقف واشنطن والاتحاد الأوروبي من محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016، ومن التعاون العسكري الغربي مع مقربين من حزب العمال الكردستاني. بيد أن السلطان الجديد الذي يرغب في تصوير نفسه سيداً وحيداً على الرقعة الاستراتيجية، عبر إبداء التأفف من الحليف الأطلسي والتقرب من القيصر الجديد غريمه وشبيهه في آن معاً، يدرك ضيق هامش مناورته وأن الانفتاح على روسيا وإيران والسياسة الخارجية المعدلة لا تعد بدائل عن صلاته المتشابكة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية مع الغرب.

ويبدو أن استعجال الرئيس التركي الحصول على منظومة أس-400 الروسية له صلة بتداعيات 16 يوليو 2016 والضعف الذي أخذ يعتري الجيش التركي بعد عملية التطهير الواسعة. وحسب خبراء عسكريين أوروبيين، جرى استبعاد 1800 من كوادر القوات الجوية، بينهم 300 طيار غالبيتهم من طياري مقاتلات أف-16 التي تمثل عماد سلاح الجو التركي. وأخيراً واجهت القيادة التركية مشكلة عويصة إذ رفضت إرسال طياريها المتمرنين للتدرب في الولايات المتحدة، ورفضت واشنطن في المقابل إرسال مدربين إلى أنقرة ومنعت باكستان من إتمام هذه المهمة. ولذا يتم تعويم الدفاع الجوي للتعويض عن النقص في سلاح الجو. وتوازى التعويل على السلاح الروسي مع تطهير الجيش التركي، الركيزة في العلاقة مع الناتو منذ 1952، من الجنرالات المقربين من الغرب والصعود ضمن الجيش وأجهزة الأمن للجناح الأورو- آسيوي الذي ينادي بإعادة توجيه السياسة التركية نحو الشرق ونسج تحالفات مع روسيا والهند والصين.

لا ينفصل ارتسام التباعد التركي- الأطلسي عن تدهور الصلات بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة، وقد تمثل ذلك بتوافق في برلين على طلب وقف المفاوضات بشأن عضوية تركيا. وبالفعل ما بين عام 2005 موعد بدء المفاوضات المذكورة، وسبتمبر 2017، حصلت تحولات لغير صالح هذا الخيار. لكن من نواحي الاقتصاد والأمن ومعضلة اللاجئين، تفرض الواقعية على بروكسل وأنقرة الحفاظ على صلات حيوية للطرفين. بيد أنه في حسابات الربح والخسارة لن تعوض موسكو وطهران خسائر تركيا من تدهور علاقاتها مع واشنطن وبرلين وخسارة ورقة أوروبا التي كانت مفتاح النجاحات التي ميزت الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية.

يصر أردوغان على التحليق في سماء الأيديولوجيا والشعارات الرنانة، ويعود إلى الأرض في رقصة على الحبل المشدود بين الغرب والشرق، وتقوده خياراته نحو تخبط لا يضمن ديمومة صعوده ومصالح تركيا.