بقوة الردع الروسية الهائلة، أصبح مسار الاستانة واقعياً، إلزامياً، لا بديل له ولا منازع . بات أكثر جدية وواقعية من مسار جنيف الذي يوحي بأنه اشبه بملتقى بحثي أكاديمي يمثل فسحة للخيال السوري، للتداول بأفكار ورؤى بعيدة، لا سند لها إلا في الحتمية التاريخية الموعودة.
زال الشك في مسار الاستانة وفي كونه إنقلاباً على جنيف وقراراتها الدولية الإجماعية. في ختام الجولة السادسة، خرج المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا متوسلاً العودة الى تلك العملية السياسية المنسية، بعدما شهد التوقيع على سلسلة من الاتفاقات الميدانية-السياسية، بين الدول الثلاث الراعية لذلك المسار، وبعدما سمع عن الاتصالات الاميركية الروسية الرفيعة المستوى التي رافقتها ، وبعدما علم بان ثلاث أو أربع دول عربية إضافية طلبت الالتحاق بالاستانة، بصفة مراقبين.
لم تصادر روسيا إدارة الصراع في سوريا. الأدق أنها كلفت بتلك الادارة، وبما يشبه الإجماع العربي والدولي. هي الآن تحصد ما حققه جيشها من مكتسبات عسكرية وسياسية على الارض السورية طوال العامين الماضيين، وتستكمل مع الاتراك والايرانيين رسم خريطة مناطق خفض التوتر ، التي لم يبق خارجها سوى إدلب وبعض الجيوب الصغيرة، وتحدد الخطوات الميدانية المقبلة، المؤدية في نهاية المطاف الى إستئناف العملية السياسية بين السوريين.
ومهما قيل في ذلك المسار الروسي المفروض بالقوة، فإنه بات يعبر بدقة متناهية عن موازين قوى فعلية أفرزتها السنتان الماضيتان من عمر التدخل العسكري الروسي في سوريا، كما أنه يقدم رموزاً ووجوهاً حقيقية من المعارضة السورية، ذات صلة وثيقة بالارض والجمهور .. يمكن أن ترث الهيئات والمؤسسات الاولى إذا تمكنت يوماً من الاجتماع في جسم سياسي وعسكري واحد، كما كان المجلس الوطني أو الائتلاف في ما مضى، وإذا إستطاعت أن تبلور خطاباً مشتركاً وبرنامج عمل موحداً.
لا يمكن إتهام الروس بأنهم هم الذين أنتجوا تلك الوجوه الجديدة، البديلة لوجوه سياسية عريقة في المعارضة السورية، تفقد بشكل تدريجي صفتها التمثيلية. ثمة ما هو منطقي في ذلك التحول في تمثيل المعارضة، لا يمكن لأحد أن ينكره ، أو يكتفي بالقول أنه من علامات الانحدار السوري، التي يمكن بل يجب البحث عنها في أمكنة أخرى.
على مضض، يجدر التسليم بأن مسار الاستانة لم يعد يقاوَم. المعارضون السوريون الذين كانوا في العاصمة الكازخية، رضخوا للأمر الواقع، الذي رسخته روسيا ، وساهمت به جميع الدول التي وقفت في الماضي خلف المعارضة السورية ، لكنهم لم يستسلموا تماماً. ما زالوا ،حتى الان على الاقل، يحرّمون الصلح مع النظام، وما زالوا يهابون الاتفاق المباشر معه، ما عدا بعض التشكيلات الاسلامية المخترقة من أكثر من جهاز إستخباراتي عربي. وهم يعتبرون أن إنضمامهم الى ذلك المسار الروسي ، هو جزء من إنخراطهم في الحرب العالمية على إرهاب داعش والنصرة.
لم يعد هناك تشكيك في مسار الاستانة ولا في هوية المشاركين السوريين ولا في درجة تمثيلهم للمناطق التي ينتمون إليها. تراجعت الحاجة الى مظلة الإئتلاف وغيره من المؤسسات المعارضة المقيمة في الخارج . ولن يمضي وقت طويل حتى يسترد الداخل السوري دوره في منح الشرعية أو نزعها عن معارضي المنفى..الذين ليس في الأفق ما يوحي بأنهم ما زالوا قادرين على حفظ وجودهم وإستعادة نفوذهم السابق.
الردع الروسي تحقق بالفعل. وتمكن من تشتيت معارضة سورية كانت مفككة أصلاً. لكنه ما زال يعترف بإستحالة تحقيق النصر الكامل على جموع المعارضين السوريين: تلك هي فلسفة مسار الاستانة، الذي أكتسب بعد جولته العسكرية السادسة، زخما سياسياً إضافياً يصعب تحديه.. ويحيل الى المخيلة الروسية وحدها مهمة رسم مستقبل الصراع في سوريا .