يتعاطى فريق الممانعة مع مقولة «فشل المشروع» المضاد لهم، الذي يحشونه أطرافاً وأوصافاً، كما لو كانت مقولة «طازجة» هي المرّة الأولى التي يثبونها ويؤسسون عليها. المفارقة أنّه، إذا ما رجعنا إلى كل السنوات التي قطعناها مع هذا الفريق نجدهم يكرّرون «حدث» فشل المشروع المضاد لهم، على مدار الوقت. متى لم يعلن الممانعون فشل المشروع المضاد لهم؟ فإذا كان هذا المشروع لا ينتهي في نفس الوقت، عند كل عتبة يزف فيها للعباد نبأ فشله وتدحرجه وتخبطه، فمرد ذلك واحد من ثلاثة، إمّا أنّه في كل موسم تعارك الممانعة خصماً جديداً وتبطحه، وإمّا أنّ الخصم إيّاه بسبعة أرواح في مواجهة الممانعين، وإمّا أنّه ليس هناك بكل بساطة «مشروع» مضاد للممانعة كي يكون بالمتسع الإنتصار عليه.
أساساً ما هي هذه المنظومة التي تجمع من ولاية الفقيه حتى البعث الأسدي مروراً بـ «حزب الله» وبعض التنويعات القومية واليسارية، كي ينوجد في مقابلها مشروع مناهض لها، وكي يكون مفهوماً على أي أساس تنتصر وضد من؟
ليس بديهياً الأمر. فإذا كانت منظومة الممانعة التي يحكى عنها ليست هي النفوذ الإيراني العامل على التمدّد والتصلّب في بلدان المشرق العربي، فيمكن بالفعل، الإقرار بأنّ هذا النفوذ توسّع بعد التدخل الأميركي في العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وبعد انتقال النظام السوري من موقع «الحليف» إلى موقع «التابع» لنظام ولاية الفقيه، وبعد تضخم انعدام التوازن بين «حزب الله» وبين المكونات السياسية الأخرى في لبنان.
أمّا إذا أريد بمنظومة الممانعة شيء إضافي بالنسبة إلى دائرة النفوذ الإيرانيّ هذه، فكل ما حصل في السنوات الماضية يبرز أكثر فأكثر الطابع «الهزليّ» لغير المنتمين للخط الخميني ضمن معسكر الممانعة. وحدهم الخمينيون هم الجدّيون بين الممانعين، والذي يمكن في نهاية المطاف الكلام معهم في السياسة. أما غير الخمينيين، فهم بمنزلة المهرّجين ليس أكثر ضمن هذه المنظومة، سواء كانت لهم مخالب، أو من دون. إذاً، عند هذه العتبة، من «يكتب التاريخ» لدى الممانعين، إذا ما شئنا استعادة عبارة السيد حسن نصر الله؟ يكتب تاريخ الممانعة الخمينيون. الآخرون ظواهر هامشية.
طبعاً، هناك بعد ثالث للموضوع، يتصل بالصراع المذهبي، وثمّة من يستعجل الحديث عن تحوّل عميق في بنية مجتمعات المشرق العربي، على صعيد الأنسجة الأهلية والصبغة المذهبية الإجمالية. وهنا، لا يمكن أن يكتب تاريخ هذا التحوّل العميق المزعوم أحد الآن. إنّه برسم الأجيال المقبلة. فالمؤرخون المنتمون إليها هم الذين سينظرون إلى ماضيهم - حاضرنا، وينطقون إذا كانت التحولات الراهنة مفضية إلى تحوّل عميق على الصعيد المذهبي لمجمل مجتمعات المشرق العربي، أسوة بالمحقق في العراق، بعد انتقاله من غلبة إلى غلبة.
هل يكتب الممانعون إذاً التاريخ؟
1 – الخمينيون منهم هم الذين يكتبون تاريخ الممانعة.
2 – التحولات العميقة على صعيد البنى الإجتماعية في المنطقة وما إذا كانت في طور تبدّل على صعيد «اللون المذهبي الإجمالي» للشرق العربي لا يمكن ارتجال الحكم عليها الآن. التحولات العميقة تفترض وقتاً طويلاً. الأحداث الصاخبة والمشهدية تُشعر صانعيها أو المشاهدين بأنها تبدّل كل شيء بلحظة، في حين أنّ الأمور تأخذ وقتاً أطول من الأحداث عندما يتعلّق الأمر بهياكل وبنى.
بالتوازي، إذا كان الخمينيون، من ايران إلى لبنان، يكتبون تاريخ الممانعة، فهذا مختلف إلى حد كبير، عن القول بأنهم يكتبون تاريخ المنطقة في هذه الفترة من الزمن. ليس فقط لأنّها من اختصاص مؤرخي الأجيال القادمة. بل أيضاً لأنّ هذه المنطقة من العالم تغادر التاريخ اليوم أكثر من أي وقت مضى. كثرة الحديث عنها، عبر الكوكب، «تغش». ما هو هذا العمران الذي يشيد صرحه الممانعون كي يقول الواحد منهم لأخيه أنّهم «يكتبون تاريخ المنطقة»، فقط، لأنهم أجروا مفاضلة مع «داعش»؟ أن تكون أقل ظلامية من داعش لا يعني أنك تنويري. أن تكون داعش قد بدّدت التاريخ، فهذا لا يعني أنّك تستأنف التاريخ.
الخمينيون يكتبون تاريخ الممانعة نعم. غيرهم من الممانعين على هامشهم.
لكن الخمينيين لا «يكتبون تاريخ المنطقة»، فبعد عقود طويلة على تشييدهم نظامهم في ايران لم يفرجوا لنا بعد عن نمط العمران الذي يريدون به أن يكتبوا التاريخ. من هنا، الظلم اللاحق بتاريخ الصفويين حين يتهم الخمينيون بالصفوية. أنى للخمينيين أن يكونوا صفويين؟ اسماعيل شاه أو عباس شاه كانا يتنافسان مع العثمانيين على «كتابة تاريخ المنطقة»، مفهوم. لكن «الباسدران»، أي مظهر عمراني أو حضاري عندها كي تكتب هذا التاريخ؟ مساهمتها في «ورشة الهدم»؟ ليست مساهمة ثانوية أبداً. فإذا كان هذا هو المقصود، فعلاً هم «يختطون لنا» تاريخنا، تاريخ بلا خطوط.