لولا أنه لم يبق على «الاستفتاء» الذي تصر القيادة الكردية ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني على إجرائه سوى عشرة أيام لكان بالإمكان القول للزعيم الكردي، ما دام أن العراق خلافاً لاتفاق البدايات في عام 2003 بدل أن يكون دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية قد أصبح دولة دينية ومذهبية يُسيطر عليها الإيرانيون، أليس من الأفضل يا ترى أن يتم تأجيل هذا الاستفتاء إنْ ليس بالإمكان إلغاؤه وتوحيد جهود كل الذين يرفضون هذه السيطرة الإيرانية، التي تحولت مع الوقت إلى احتلال فعلي بكل معنى الاحتلال، لإخراج إيران من بلاد الرافدين ليصبح بإمكان الشعب العراقي بكل مكوناته تقرير مصيره بنفسه بعيداً عن وصاية الولي الفقيه وسطوة حراس الثورة الإيرانية وامتداداتهم في الأراضي العراقية.
والخوف كل الخوف أن يستغل الإيرانيون رفض غالبية العرب العراقيين ومعهم التركمان كلهم لاستفتاء يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر وأن ينجحوا في دغدغة الحس القومي لدى هؤلاء وافتعال صدام عربي - كردي لن تستفيد منه سوى إيران التي تعتبر أن قيام أي كيان كردي مستقل «دولة» سيشكل مقتلاً فعلياً لتماسكها الذي بقي مهدداً بيقظة فسيفسائها القومي، الأكراد والعرب والبلوش والآذاريين.. وغيرهم، والمعروف أن الشاه السابق رضا بهلوي كان قدم تنازلات كبيرة للروس وللأميركيين من أجل إطاحة دولة «مهاباد» الكردستانية التي تم الإعلان عن إقامتها في عام 1946 وإعدام رئيسها القاضي محمد.
إنه على الأكراد أن يدركوا ومنذ الآن أن إيران التي بادر أتباعها، الحشد الشعبي وغيره، إلى التهديد والوعيد، ستلجأ إلى التصعيد ودفع الأمور في اتجاه المواجهة العسكرية ليس حُباً بالعراق وشعبه ولكن لضمان استمرار وجودها الذي اتخذ الطابع الاحتلالي في هذا البلد الذي بات يشهد صحوة قومية عربية موجهة ضد هذا الوجود وبخاصة بين أتباع المذهب الشيعي الذين أدركوا أن الإيرانيين (النظام) يستهدفونهم كعرب ومثلهم مثل أشقائهم «السنة».
ولهذا فإنه ضروري جداً ألا يواجه الأكراد، بعد «استفتاء» يوم الخامس والعشرين في هذا الشهر، بتصعيد مماثل، وذلك لأن هذا هو ما تريده إيران وهنا فإن الحوار الذي وعد به الرئيس مسعود بارزاني مباشرة وبمجرد الانتهاء من هذا الاستفتاء يجب أن يتم بالحرص لا بل بأقصى الحرص على أن يكون بهدوء وبعيداً عن التوتير وعن استحضار العنف وعلى أساس المصالح المشتركة بين شعبين يربط بينهما تاريخ واحد وعلى مدى حقب طويلة.
يجب ألا تستدرج إيران الأكراد إلى المواجهة العسكرية التي إن هي حصلت فإن أول ما تدمره هو الحلم الكردي وهو حركة البناء والإعمار والتقدم الذي تم في المجالات كافة في كل مدن كردستان العراقية ولذلك وبما أن المعروف أنَّ ما بات يواجه هذا الاستفتاء المشار إليه هو مشكلة كركوك فيجب الاستعداد ومنذ الآن لتنازلات مرضية للعرب والعراقيين الذين سيجدون صعوبة جدية بأن تتغير هوية هذه المنطقة الحساسة من عربية إلى كردية... إنه يجب التفكير في حلٍّ معقول ومقبول لهذه المشكلة التي إن هي تفجرت فإن دولة الولي الفقيه ستكون المستفيد الوحيد، وذلك إنْ على المدى القريب وإنْ على المدى البعيد.
والمفترض لتفادي هذا كله أنْ تعلن القيادة الكردية، ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني المعروف باتزانه وحكمته وبصفات رجل الدولة المجرب من الطراز الرفيع، ومنذ الآن أن «الاستفتاء» لا يعني ترسيماً للحدود بين العراق وبين الإقليم الكردستاني ولا يعني إلحاقاً فورياً لمنطقة كركوك بعد هذا «الاستفتاء» مباشرة بكردستان العراقية فكل هذا يجب أن يتم بالتراضي وبالتفاهم وبالابتعاد عن استخدام العنف الذي تريده إيران وتسعى إليه لضمان بقاء وجودها الاحتلالي في بلاد الرافدين، والمعروف هنا أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان قال إن حراس الثورة قد أصبحوا أقوى قوة عسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، والمعروف أن كردستان العراقية جزء لا يتجزأ من شرق البحر المتوسط هذا الذي بعد سيطرتهم على العراق وسوريا أصبح الإيرانيون يشكلون فيه القوة الرئيسية.
من حيث المبدأ إنه حتى لو تراجع الرئيس مسعود البارزاني عن قرار إجراء «الاستفتاء» الذي تقرر إجراؤه في الخامس والعشرين من هذا الشهر، والمؤكد أنه لن يتراجع فقد سبق السيف العذل، فإنه من حق الأكراد في كل أماكن وجودهم الأساسية - التاريخية أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم وأن يقيموا دولتهم أو «دولهم» المستقلة حيث يوجدون، ومثلهم مثل أمم وشعوب هذه المنطقة وبخاصة أن المعروف أن معطيات هذا القرن، الألفية الثالثة، تختلف عن معطيات القرن الماضي - القرن العشرين والمفترض أن «سايكس - بيكو» قد انتهت ولم تعد لها أي تأثيرات فعلية في هذه المنطقة الشرق أوسطية، وأنه من حق الشعوب التي كانت ظلمتها هذه الاتفاقيات التآمرية أنْ تحصل على ما حصل عليه غيرها.
إنه لا يجوز الاستمرار بالتعامل مع الأكراد في كل الدول التي يوجدون فيها بصورة أساسية ورئيسية كـ«مادة لاصقة» للحفاظ على الوحدة الداخلية لهذه الدول، وحقيقة أن هذا إنْ هو كان ممكناً في القرن الماضي وقبله فإنه لم يعد ممكناً الآن، ولذلك فإنه على الدول المعنية أن تدرك أنه لا بد مما ليس منه بُدّ وأن الأفضل أن يتم التعاطي مع هذه المسألة بالتفاهم وبعيداً عن المنطق الذي ساد في القرن الماضي والذي للأسف لا يزال سائداً حتى الآن، وحيث إنه لا تزال هناك نظرة «شوفينية» ضد هذا الشعب الكردي في بعض الدول التي أصبح جزءاً منها وفقاً لمعطيات القرن الماضي ووفقاً لاتفاقيات «سايكس - بيكو» التآمرية المعروفة.
إنه لا شك في أنَّ مع مسعود البارزاني الحق كله في أن يغضب كل هذا الغضب من عدم الالتزام باتفاق ما بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين، الذي نص على أن تكون الدولة الجديدة دولة ديمقراطية ومدنية، وحيث قد تم استبدال دولة مذهبية وطائفية «يسيطر عليها الإيرانيون» بها، فهذا لا يمكن الاستمرار به على الإطلاق والواضح أنه من غير الممكن تغييره ما دام أن إيران تحتل العراق احتلالاً عسكرياً فعلياً وتهيمن على كل مقاليد الأمور في هذه «التركيبة» السياسية العراقية.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من التأكيد على أنه خطأ فادح بالفعل أن يوصف قيام الدولة الكردية المنشودة بأنه كقيام دولة إسرائيل، فالإسرائيليون جاءوا إلى فلسطين كجزءٍ من خطة استعمارية دولية عنوانها: «وعد بلفور» الشهير وهم قد أقاموا دولتهم هذه التي أصبحت خنجراً في قلب هذه المنطقة العربية والشرق أوسطية كلها وبالقوة وعلى أساس الأمر الواقع، أمّا بالنسبة للأكراد فهم جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة وعلى مدى تاريخ طويل يتجاوز الألف عام بكثير وهم وفي كل الأحوال إنْ هم حققوا حلم تقرير مصيرهم بأنفسهم فإنهم لا يمكن أن يكونوا إلا شعباً شقيقاً إنْ بالنسبة للعرب والمفترض أيضاً إن بالنسبة للإيرانيين والأتراك.
صلاح القلاب